مصر.. والخط الأحمر الثاني أمام أطماع الخليفة المنتظر
قبل ساعات من كتابتي لهذا المقال عبرت القطع الحربية المصرية في مضيق البوسفور التركي الذي يشق مدينة إسطنبول ثاني أكبر المدن التركية، في طريقها إلى السواحل الروسية، وبحسب بيان القوات المسلحة المصرية فإن عدداً من القطع البحرية غادرت قاعدة الإسكندرية البحرية للمشاركة في التدريب البحرى المصرى الروسى المشترك (جسر الصداقة 3) والذى ينفذ لأول مرة في البحر الأسود بين القوات البحرية لكلا البلدين، أضاف البيان إن القطع البحرية المصرية نفذت تشكيلات إبحار أثناء رحلتها بمسرح عمليات البحر المتوسط.
هذا الحدث ليس حدثاً عابراً إنه بكل المقاييس ثمرة من ثمار الجهد المصري في الحضور الفاعل واستعادة دور مصر الريادي ليس في المنطقة العربية وإنما عالمياً، كما أن هذا الحدث رسالة واضحة لا لبس فيها للخليفة المنتظر اردوغان وكبح جماح مشاغباته في منطقة البحر الأحمر وشرق المتوسط والمنطقة عموماً.
مصر ومعها دول التحالف العربي قادرة على كبح جماح هذا الخروف الهائج على مسارح عمليات متعددة سياسية واقتصادية وأمنية، وهذا ما حدث فعلاً.
يحاول أردوغان فتح أسواق جديدة في البلاد العربية والحصول على ثرواتها بضغط القوة والتدخل العسكري وتحاول مصر جاهدة التخفيف من هذا الطموح التركي، الذي يندفع بقوة بعد فشله في الانتماء للنادي الأوروبي، ولعل جوهر المشكلة هي المنافسة الإقليمية على الثروات الطبيعية وفي طليعة هذه المناطق تأتي منطقة شرق البحر المتوسط، الذي يزاول فيها الأتراك مهام أشبه بالقرصنة والابتزاز من خلال بعض الأوراق التي تمتلكها تركيا.
لكن التحالف العربي وخصوصاً مصر تملك الكثير من الأوراق الرابحة والقوية أيضاً، وما الرد المصري القوي في ليبيا إلا تعبيراً عن هذه الأوراق.
لقد سعت مصر إلى حث تركيا مراراً على تغيير نهجها وتشجيعها على الحوار دون جدوى. فكانت رؤيتها الجديدة كثمرة للتحالف العربي المعلن منذ سنوات لحماية المصالح العربية والتصدي لمحور الشر الإيراني التركي القطري.
ولأجل ذلك عززت مصر قواتها العسكرية في البحر الأحمر والتي كان آخرها إنشاء أكبر قاعدة فيه وهي قاعدة (برنيس العسكرية) والتي وصفت عالميا بالاقوى في البحر الأحمر وبأنها غير نمطية.
كما عززت قطعها البحرية في المتوسط أيضا، بعد الاكتشاف الكبير للغاز المصري في حقل ظهر، وتوجت ذلك بعدد من العمليات العسكرية والمناورات مع عدد من الدول أهمها روسيا.
مرور البحرية المصرية اليوم والتي رصدتها كل وسائل الإعلام التركية ومراكز الأبحاث باندهاش في ظل وضع متوتر بين مصر وتركيا بسبب الاستعداء غير المبرر من حزب العدالة واردوغان للدولة وللشعب المصري ودعمهم لكل الفتن والتربصات التي تحركها جماعة الإخوان في مصر والمنطقة عموما بسيولة قطرية غادقة ومستمرة ومتنوعة.
لقد شكلت الاتفاقات المصرية الأخيرة مع اليونان وقبرص وغيرهما لترسيم الحدود البحرية واحدة من أهم حصص التأديب المصري للخليفة المنتظر.. ومكنت هذه الدول الاستفادة من الثروات الهائلة في شرق المتوسط وإقامة منظمه عالمية أو منتدى غاز شرق المتوسط والتي جمعت كل الدول المستفيدة من هذه الثروات باستثناء تركيا التي على خلاف مع هذه الدول جميعا دون استثناء.
تعتبر مصر وتركيا أكبر دولتين في شرق البحر المتوسط، كما تمتلك الدولتان أكبر قوة عسكرية ما يجعلهما أقوى قوتين عسكريتين تقليديتين في هذه المنطقة، وكان بالإمكان استثمار ذلك كله لصالح البلدين والمنطقة، لكن المشاغابات التركية والأطماع جعلت مصر تبحث عن شركاء آخرين، وكذلك فعلت باقي الدول في ظل سياسية تركية خرقاء، ولعل أبرز هذه الحماقات التركية قيامها بالتنقيب عن الغاز والنفط في مياه لا تملكها كنوع من الابتزاز لنيل مصالح من الدول المشاطئة للبحر المتوسط، ورفعت حدة التوتر ومنسوب احتمالات المواجهة خاصة بعد توقيع أنقرة مع حكومة الوفاق الليبية نهاية العام 2019 اتفاقية لترسيم الحدود البحرية دون وجود حدود بحرية حيث تفصلهما الجزر اليونانية في الواقع، ولذلك اعتبر هذا الأمر حماقة جديدة في مسرح السياسة التركية المتخبطة. مصر واليونان من جانبهما وقعتا اتفاقية حول تعيين المنطقة الاقتصادية الخالصة بين الدولتين في شرق البحر المتوسط وهي منطقة تضم احتياطات واعدة للنفط والغاز، لتعترض تركيا على ذلك الاتفاق، دون حيثيات قانونية محددة لهذا الاعتراض، والذي يشكل اعتراضا سياسيا مفرغا من المنطق وليس له بعد قانوني يسنده أو بالأصح مشاغبة أصبحت ديدن السياسة التركية في السنوات الأخيرة.
هذه الاتفاقية قطعت الطريق على الأطماع التركية في غاز المتوسط ونفطه لأجل غير مسمى، وهي أيضا امتداد ومسار طبيعي لنشاط ومهام منتدى شرق البحر الأبيض المتوسط.
وقد شكل هذا المنتدى ومقره القاهرة، في كانون الثاني 2019، ليضم وزراء الطاقة في دول شرق المتوسط: مصر وفلسطين والأردن وإسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا.
ويبقى السؤال المهم: هل هناك احتمالات قادمة لمواجهة عسكرية محتملة أم أن مصر أوقفت سلسلة الأطماع التركية وباتت محاصرة لها من القيام بأي تحرك مغامر ذي طبيعة عسكرية.
ربما أن الخيار العسكري بات مستبعداً بعد عبور اليوم وما سبقه من ثبات مصري وجاهزية، ويعتبر حدث اليوم عبورا مصريا جديدا ومهيبا، ولعل التنسيق المشترك مع روسيا أحد موانع اي تهور تركي محتمل وخط احمر جديد تضعه مصر لاردوغان والإخوان، ومن يمولهما، ويدور في نفس حلقاتهما المفرغة، إذا اضفنا إلى ذلك وجود وساطات وتدخل دبلوماسي من دول أخرى أهمها الولايات المتحدة في تهدئة الأمور في هذه المنطقة المهمة من العالم، والتي تعتبرها أوروبا على وجه الخصوص منطقة أمل يغذيها بالغاز من مصادر جديدة تنقذها من التحكم الروسي الذي يغذي أوروبا بنصف احتياجها من الغاز، حيث تطمح أوروبا للخلاص من تهديد القيصر الروسي، الذي يكرر عبارته الشهيرة، أن (مواطنيكم سوف يعانون من برد قارس هذا الشتاء) في إشارة إلى أهمية الغاز في التدفئة والطاقة عموما في أوروبا، وهذا الأمر يطول تفكيكه هنا، وقد نخصص له اطلالة بصورة مبسطة.
خلاصة الأمر أن مصر وجيشها هي القادر على إيقاف الأطماع التركية ومشروع الخلافة في البحرين الأحمر والمتوسط والمنطقة عموماً، وهذا هو أحد الأدوار المحورية لمصر كحارس وقائد لهذه المنطقة من العالم.
وسوف يكون من الصعب على تركيا القيام بأي مغامرة عسكرية في ظل انتشار المنشآت البحرية ومشاريع الانابيب المنتظر أن تنقل الغاز والنفط إلى المستهلك الاوروبي عبر المياه الاقليمية لأكثر من دولة متشاطئة على البحر المتوسط.
صحيح أن طبيعة الخلافات مع تركيا ليست ذات طابع اقتصادي فقط، لكن يظل الاقتصاد هو اس المعضلة، رغم وجود خلافات متشعبة ومتجذرة منذ التدخل التركي في ليبيا وسوريا واليمن.
لكن تبقى الإشكالية الرئيسة هي ثروات المتوسط، وتتشابك في هذا الصراع على أبعاده المختلفة السياسية والاقتصادية والقانونية والأمنية مع بعضها البعض، ما يجعله صراعاً معقداً، خصوصاً مع تنوع هويات اللاعبين المحلية والإقليمية والدولية، وتقع دول الخليج في صلب الإشكالات وتأتي اليمن تباعا لذلك.
هذا الصراع تؤججه جماعة الإخوان المسلمين، بدافع قطري للانتقام من مصر والسعودية، وتقف إيران لتشجيع ذلك.. لا سيما والعلاقة مع تركيا ايجابية، وتتكامل وتتقاطع في أكثر من جبهة، أن مصر وقواتها تضع خطاً أحمر جديداً في المتوسط لتركيا أشبه بذلك الخط في ليبيا وهي المختصة بوضع الخطوط العريضة أو تحطيم الخطوط العريضة كخط برليف في حرب 73م هذا هو قدرها التاريخي والجغرافي والسياسي أيضاً.