ما على المحكّ في اليمن… يتجاوز الحدود
من المفيد يمنيا، وإقليميا في الوقت ذاته، الاتفاق على تنفيذ اتفاق الرياض بين “الشرعية” اليمنية و”المجلس الانتقالي الجنوبي”، وهو اتفاق، وقع في الخامس من تشرين الثاني – نوفمبر 2019.
أوقف الاتفاق الذي بقي حبرا على ورق، تقريبا، القتال جزئيا بين الجانبين، لكنّه لم يوفّر أي حلّ يعيد الاستقرار إلى المحافظات الجنوبية اليمنية وإلى مدينة عدن بالذات. الأهم من ذلك كلّه أنّه لم يؤدّ إلى تشكيل قيادة عسكرية وسياسية موحّدة تتولّى قتال الحوثيين، أقلّه تطويقهم في صنعاء والحدّ من حرّية تحركهم في ميناء الحديدة الذي يسيطرون عليه ويهدّدون منه الملاحة في البحر الأحمر.
على العكس من ذلك، شهدت الفترة الممتدة منذ توقيع اتفاق الرياض توسّعا لمناطق سيطرة الحوثيين (أنصار الله) الذين ليسوا سوى أداة إيرانية لا أكثر. تمدّد الحوثيون في مناطق قريبة من محافظة مأرب التي تسيطر عليها “الشرعية”، كذلك باتت محافظة الجوف، في معظمها تحت سيطرتهم. وفي الحديدة ثبّت الحوثيون مواقعهم في غياب دعم حقيقي للقوى التي تقف في وجههم. حصل ذلك بعدما كانت مدينة الحديدة وميناؤها على وشك السقوط في يد القوات التي سبق لها أن أخرجتهم من ميناء المخا، فيما “الشرعية” شبه نائمة. معروف أنّ لميناء المخا أهمّية خاصة، عالميا، نظرا إلى أنه يشرف على مضيق باب المندب الذي يتحكم بمدخل البحر الأحمر من الجهة الجنوبية. من هو موجود في المخا يستطيع إغلاق البحر الأحمر والطريق البحرية إلى قناة السويس. في مرحلة معيّنة تبجحت إيران بأنّها تسيطر على مضيق هرمز وعلى باب المندب. كان إخراجها من باب المندب إنجازا بحدّ ذاته نفّذته قوات تمتلك علاقة بالمجلس الانتقالي الجنوبي أكثر بكثير مما تمتلك علاقة بـ”الشرعية” التي على رأسها الرئيس الانتقالي عبدربّه منصور هادي.
تحدّث بيان للتحالف العربي عن آلية لتسـريع تنفيذ اتفاق الرياض، تتضمـن تخلي “المجلـس الانتقالي الجنوبي” عن الإدارة الذاتية للمحافظات الجنوبية التي كان أعلنها قبـل ذلك، وتنفيـذ ترتيبات عسـكرية وأمنية، ثم تشـكيل حكومـة كفاءات مناصفة بين الجنوب والشمال. وشـملت الآلية أيضا استمرار وقف إطلاق النار بين الحكومة والانتقالي وإخراج القوات العسكرية من محافظة عدن، إضافـة إلى فصل بين قوات الطرفين في محافظة أبين وإعادتها إلى مواقعها السابقة.
يفرض تسريع تنفيذ اتفاق الرياض انتهاء الوضع غير الطبيعي الذي يعاني منه اليمن من جهة وطبيعة التحديات التي يطرحها، من جهة أخرى، هذا الوضع في بلد يمتلك أهمّية إستراتيجية كبيرة بسبب ساحله الطويل (نحو 2500 كيلومتر) والممتد من بحر العرب إلى البحر الأحمر.
آن أوان الاعتراف بأنّ هناك حاجة إلى النظر إلى اليمن من زاوية أوسع، هي زاوية الأمن الإقليمي في المنطقة الممتدة من قناة السويس إلى الحدود العُمانية – اليمنية. من هذا المنطلق، لا وقت لألاعيب تمارسها “شرعية” عاجزة عن أن يكون لها وجود فعلي على الأرض اليمنية، باستثناء مناطق قليلة. ليس طبيعيا أن تكون هذه “الشرعية” في عدن وأن تمارس مهماتها في حين أنّ عبدربّه منصور نفسه لا يستطيع الذهاب إلى مسقط رأسه في محافظة أبين. ليس طبيعيا في الوقت ذاته أن يكون هناك صراع عسكري وسياسي داخل عدن وفي محيطها فيما “الشرعية” تعاني من غياب أي وضوح في الرؤية، خصوصا بسبب الاختراقات الداخلية من جماعة الإخوان المسلمين. يعتقد الإخوان المسلمون أن المستقبل اليمني ملكهم، خصوصا إذا كرّس الحوثيون وجود إمارة لهم في صنعاء ومحيطها. يعتقدون بكلّ بساطة أنّ كل المناطق اليمنية الأخرى ستكون تحت سيطرتهم في ظلّ اتفاقات من تحت الطاولة مع “أنصار الله”.
لا شكّ أن تسريع تنفيذ اتفاق الرياض أمر في غاية الضرورة، خصوصا إذا أعاد الأمل بتوفير ظروف معيشية أفضل إلى المواطنين في المحافظات الجنوبية. لكن الكثير سيتوقف على أمرين في غاية الأهمّية، أولهما إعادة تشكيل “الشرعية” وثانيهما تشكيل حكومة تضمّ بالفعل اختصاصيين يمتلكون القدرة على التعاطي مع المشاكل المطروحة على الأرض بدل البحث عن الوجاهة في فنادق هذه العاصمة العربية أو تلك… أو عبر إقامة قنوات اتصال مع دول مثل تركيا تمتلك حسابات يمنية خاصة بها.
من المفيد العودة قليلا بالذاكرة إلى الخلف. تعني هذه العودة، أوّل ما تعنيه أن “الشرعية” لا تستطيع السيطرة على عدن بذهنية أن عبدربّه منصور هادي يشغل موقع الرئيس اليمني. لا مفرّ من التعاطي مع الواقع المتمثل في أن قوى أخرى موجودة على الأرض. لا يمكن بأي شكل تجاهل هذه القوى التي ما زالت تقاتل على جبهة الحديدة، أي أن الموضوع لا يتعلّق فقط بـ”المجلس الانتقالي الجنوبي”، بل بأطراف أخرى فاعلة على الأرض وتمتلك رغبة حقيقية في مواجهة الحوثيين.
بكلام أوضح، إن السباق الذي يدور في الساحة اليمنية أكبر بكثير من “الشرعية”. لذلك لا يمكن خوضه بحصان ليس حصانا. أكثر من ذلك، لا يمكن عزل المواقع المهمّة في اليمن، بما في ذلك مدينة عدن بمينائها ومطارها، عن الأمن الإقليمي، أمن الجزيرة العربيّة كلّها وأمن البحر الأحمر وأمن طريق النفط والتجارة الدولية من بحر العرب إلى قناة السويس.
كانت خطوة التحالف العربي الهادفة إلى تسريع تنفيذ اتفاق الرياض مع وجود على الأرض لهذا التحالف خطوة موفقة. السؤال الذي سيطرح نفسه كيف التوفيق بين هذه الخطوة والمواجهة مع الحوثيين؟ هل من مصلحة للإخوان المسلمين، الذين لديهم ميليشيات خاصة بهم ويشكلون قسما من “الشرعية”، في اعتماد الجدّية في دحر الحوثيين؟
ما على المحكّ كبير وكبير جدّا في اليمن. ما على المحكّ يتجاوز اليمن وحدودها. لا يمكن ترك مستقبل بلد بهذه الأهمّية لـ”شرعية” أثبتت طوال ثماني سنوات أنّ لا فائدة تذكر منها، “شرعية” ما زالت تعتقد أن في الإمكان العودة إلى ممارسات الماضي وترفض الاعتراف بأنّ عبدربّه منصور هادي خرج من صنعاء ولا يمكن أن يعود إليها.
اليمن، بلد ينخره الفقر والمرض والتخلّف. تغيّر اليمن إلى حد كبير. لا عودة إلى صيغة البلد الموحّد ولا عودة إلى صيغة الشطرين. ربّما فهم “المجلس الانتقالي” الذي يريد استقلال الجنوب ذلك، خصوصا بعد فشله الذريع في تأمين أبسط الخدمات لأهل عدن… هل تفهم “الشرعية” ذلك أيضا؟
*إعلامي لبناني