تعز.. هل “الثورة” خيار مناسب للخروج من الجحيم؟!
حسب رأيي.. كفاية على تعز “الفورة” الأولى التي خسفت بالدولة والمدنية والثقافة.. وأخرجت سالم وغزوان وحردون والأعرج.. “فورة” ثانية قد تخسف بالشوارع والبيوت، وتخرج ياجوج وماجوج والمسيخ الدجال.!
لم تعد هذه المدينة التي كانت حالمة قبل اضطرابات 2011، تحتمل ثورة أخرى. بعد أن أصبحت غارقة بالكوابيس:
كانت عاصمة للثقافة والفن والنظافة والتمدن.. وأصبحت عاصمة للفوضى والفساد والقذارة والجريمة والعنف والخوف.. والفتن.. ما ظهر منها وما بطن.!
يصح هذا أيضاً -بدرجات متفاوتة- على مدن يمنية أخرى، وعلى مدن وبلدان عربية.. كلها ضحايا اندفاعها الأعمى وراء الشعارات العاطفية لـ”الثورات الشبابية المدنية السلمية” خلال تسونامي “الربيع العربي”.!
ثم إن “الاعتصامات والمظاهرات والاحتجاجات السلمية”، التي كانت ممكنة ومؤثرة في ظل الدولة خلال عهد الرئيس صالح والنظام السابق، لم تعد ممكنة، في ظل الجماعات الدينية وسلطات الأمر الواقع، وأنظمة الميليشيات.
تغيرت قواعد اللعبة ومبادئها: لم تعد علاقة هذه الجماعات المسلحة بالشعب علاقة دولة بمواطنين، بل علاقة عصابات برهائن، لا مكان للدستور بل لقواعد الاعتقال. وكلنا يعرف ما الذي يحكم تمرد المعتقلين في السجون المعزولة.!
هذه الجماعات المسلحة التي تسلقت إلى السلطة من خلال الاحتجاجات السلمية، على الأقل في البداية، لا يمكن أن تسمح لغيرها بالتسلق، وإزاحتها عن السلطة. عبر نفس هذا السلم الناعم.
كما أن هذه الجماعات الثورية التي امتطت موجة الثورة السلمية الساذجة الأولى، ستمتطيها مجددا. لا يوجد أي دليل على أن التيارات والشرائح المدنية المتآكلة باضطراد، تعلمت من الدرس وأصبحت أكثر وعياً بهذه الجماعات، بل ما تزال متحالفة معها.
وهذا ما يحدث في الحراك الراهن في تعز: نفس الخطباء يخطبون في نفس ساحة الاعتصام.. ونفس الجماعة تحاول الاستحواذ على نفس المنصة، ومن تركيا تغرد السيدة توكل كرمان للثورة والثوار كما فعلت من قبل.!
كانت هذه الجماعة “جماعة الإخوان” حتى وهي شريكة في النظام السابق، وأحد أعمدته، وأسوأ مكوناته.. تضع إحدى رجليها في المعارضة، ومتحالفة مع أحزابها، وعندما اندلعت الثورة امتطتها وقادتها إلى حيث ما تريد.!
صحيح أنها خسرت كل شيء، تقريباً، بسبب جشعها ومحاولتها الاستحواذ على كل شيء، لكن متى كنا نتعلم من أخطائنا في اليمن، وهي الآن تحكم تعز، وتضم المعارضة، وستقود الثورة إلى ما تريد.!
الثورة السلمية -إذن- خيار بائس، فضلاً عن كونه لم يعد ممكنا، وأسوأ منه الثورة المسلحة. وهذا لا يعني أن تقبل تعز بعصاباتها الحاكمة، وتتعايش مع واقعها المرير، وتنطوي بصمت على عذاباتها المريعة..!
هناك دائماً أكثر من خيار.. لتجسيد الإرادة الشعبية. على سبيل المثال: البيان الذي أصدره مؤخراً الحزبان: الناصري والاشتراكي، في تعز، ينطوي -بغض النظر عن أشياء كثيرة- على رؤى وجيهة عملية، بمثابة خارطة طريق للإصلاح والتغيير.
يمكن للنخب المدنية والتيارات الوطنية في تعز واليمن عموما بلورة رؤى وابتكار خيارات أخرى أنضج وأرشد، ويمكن وصفها بالـ”ثورية” بالمعنى الذي لا يختزل “الثورة” بالاندفاعات الجماعية الغاضبة المجربة التقليدية.
في كل حال. الوعي والفكر والفعل الثوري: مصطلحات مهذبة لحالات نفسية ولوثات هستيرية جماعية تسببت بنكبات وانتكاسات كارثية في أكثر من 95% من نماذجها على امتداد العالم.
تاريخ اليمن المعاصر يطفح بالتجليات والشواهد المأساوية لهذه القاعدة والظاهرة الثورية، وما يجعل الأمر أكثر تراجيدية أن الجميع في اليمن: في اليسار واليمين، ما زالوا يتبنون “الخيار الثوري” ليس كأحد البدائل المتاحة للتغيير، بل كفكر وعقيدة وأيديولوجية أحادية شمولية مطلقة.!