تجار الإعجاز العلمي يفترون على القرآن ويخدعوننا
ما يسمى بالإعجاز العلمي في القرآن، ليس من العلم الصحيح، ولا هو من القرآن.. والمشتغلون به تجار يتكسبون ببيع الأوهام للمؤمنين.. يحرفون معاني الألفاظ العربية، ويلوون أعناق آيات القرآن، لينزلوها منزل نظرية علمية معينة أو كشف بشري قابل للنقض.. أبسط مثال لذلك أنه لما اكتشف علماء الفلك أن الشمس تدور حول نفسها في حركة مغزلية، قاموا يفتشون في القرآن عن آية أو كلمة طيعة، ليحرفوا معناها كي تعطي نفس معنى النظرية كما يظنون.. ظهرت نظرية دوران الشمس حول نفسها، فقالوا: إذا كان العلم قد قال هذا مؤخرا، فقد سبقهم القرآن إلى ذلك، حيث قال قبل 14 قرنا: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}. حيث عبر عن نظرية الدوران بكلمة تجري.. جعلوا كلمة تجري القرآنية وكلمة تدور بمعنى واحد.. بينما لفظة تجري لها معنى غير معنى تدور، وتلميذ في الصف السابع أساسي قادر على معرفة الفارق بين كلمة دار، وكلمة جرى.. دار حول المدرسة، وجرى إلى البيت.. ثم لو صدقنا كلام أهل الإعجاز العلمي هذا شاركنا معهم في بخس القرآن، فقبل نزول القرآن، قال شاعر جاهلي عن الشمس:
تجري على كبد السماء كما يجري حمام الموت في النفس
فيكون الشاعر الجاهلي قد سبق القرآن، وسبق العلم الحديث معا، ولكن إعجازهم متوهم، فالشمس تدور حول نفسها، لكنها لا تجري في الحقيقة، بل هي ثابتة، وكوكبنا الأرضي هو الذي يدور، لكن القرآن صورها للعرب كما يرونها.
ثم إن طريقة التعامل مع القرآن، ومع اللغة العربية التي يتبعها المشتغلون بالإعجاز العلمي، يمكن اتباعها مع أي نص بشري أو أي نص في دين سماوي أو وثني، وسنجد فيه إعجازا علميا.. لنأخذ مثلا الكشف العلمي الفرنسي الجديد، عن تفضيل إناث الطيور للذكور الذين من ذات مستواهن، فيمكننا القول إن هذا الكشف العلمي قد أشار إليه عرب ما قبل الإسلام في مثلهم السيار: إن الطيور على أشكالها تقع! وبالطبع كان العرب الأول يدركون أن الطيور غير المتجانسة لا تتآلف، ولا تتعايش معا، فلم تكن صداقة بين صقر وحمامة، أو بين نسر ويمامة، فالإعجاز العلمي الذي قلنا به في هذه الحالة موهوم، وكل الإعجاز الذي يقول به زغلول النجار موهوم، ويسري هذا على معاصريه وعلى الذين سبقوه.. بما في ذلك الإعجاز العلمي الذي نفترضه نحن الآن لضرب المثل.. الفيلسوف بشر بن المعتمر مؤسس فرقة المعتزلة في بغداد المتوفى عام 210 هجرية، كان يقول: إن الإنسان يقدر أن يجعل لغيره لونا وإدراكا وسمعا ونظرا بالتوالد إذا عرف انتظامها.. فيمكنك القول إنه كان يقصد أن الاستنساخ أمر ممكن إذا عرف انتظامه أو قوانيه.. ويكون بذلك قد سبق العالم أيان ويلموث، وفريقه العلمي بمعهد روزلين- جامعة أدنبرة بالمملكة المتحدة، الذين استنسخوا النعجة دولي، حوالى منتصف العام 1996، ففتحوا باب استنساخ الحيوانات، وأيضا استنساخ البشر إذا سمحت الحكومات بذلك! لكن هل في كلام بشر بن المعتمر إعجاز عن الاستنساخ أو أن كان يقصد ما توصل إليه أيان ويلموث وفريقه؟ لا، وإنما نحن الذين حملنا قوله ما لا يحتمل، وقولناه ما لم يقل استنادا إلى تشابه الألفاظ.
فإذا كان تحصيل الإعجاز العلمي القرآني بالمنهج غير العلمي نفسه الذي يعتمده المشتغلون بالإعجاز العلمي في القرآن، فانظروا كيف يمكن أن نجعل الشاعر ابا الطيب المتنبي سباقا إلى الإشارة للقاح كورونا، ونقول سباقا لأن هذا الفتح العلمي لم يحققه العلماء الغربيون إلا قبل أشهر من الآن.. يقول المتنبّي:
لعل عتبك محمود عواقبه فربما صحت الأجساد بالعلل
وذلك في قصيدة طويلة مطلعها:
أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل دعا فلباه قبل الركب والإبل
فالمتنبي قال ربما صحت الأجساد بالعلل، وهنا يشير إلى التلقيح أي أخذ جرثومة (علة) وزرعها في جسد الإنسان لوقايته من فايروس مثل كورونا، أو فايروس شلل الأطفال.. وفي الحقيقة كان المتنبي يقول لسامعه: لعلي أحمد عاقبة عتبك فلا أعود إلى شيء استوجب به العتب، كمن يعتل فربما تكون علته أمانا له من أدواء غيرها، فيصح جسمه بعلته مما هو أصعب منه..
ويقول الشاعر المتنبي في قصيده يمدح أميرا كريما:
كالبحر يقذف للقريب جواهرا جودا ويبعث للبعيد سحائب
ففي هذا البيت يقرر المتنبي أن السحب من ماء البحر، يقول عن ذلك الأمير إنه لشدة كرمه يشبه البحر الذي يقذف للصياد القريب جواهرا، ويبعث سحبا تهطل بمائها على البعيدين منه.. وفي شعر المتنبي هذا إعجاز علمي، إذ قد أخبر أن السحب وماءها تأتي من مياه البحار، وذلك قبل أن يكتشف علماء الأحياء هذه الحقيقة العلمية، وكان بعض قدامى العرب يعرفون أن السحب تتكون من مياه تبخرت من البحار، والرياح تسوقها إلى سماء اليابسة حيث تمطر، ومن ذلك قول شاعر جاهلي في صفة السحاب: شربن بماء البحر.
نزيد مثالا أخيرا، وهو أوضح.. فمنذ ما يزيد عن مائتين وخمسين عاما، أنشد الشاعر اليمني عبد الرحمن الآنسي قصيدة ورد فيها هذا البيت:
يعارضها اللصوص ليدركوها ومن يعلق براكبة الهواء
فقبل اختراع الطائرة بنحو مائة وخمسين عاما، قال: راكبة الهواء.. أليس في الكلمتين هاتين إعجاز علمي؟ نعم، هو كذلك إعجاز علمي شديد الوضوح، إذ إن الشاعر في قوله: راكبة الهواء كان يشير إلى الطائرة! في نوفمبر 1903 فقط تمكن الأخوان رايت (وهما: أوفيل، وويلبر) من ابتكار الطائرة، ثم صنعت منها أنواع شتى لاحقا بفضل العلم الحديث، بينما صاحبنا قد قال: راكبة الهواء.. ووجه الإعجاز العلمي هنا أنه في زمن هذا الشاعر الذي ولد عام 1755، لم يكن أحد ليتصور إمكانية وجود آلة تركب الهواء، والمدهش أن عدم القدرة على تصور آلة تركب الهواء لم يقتصر في ذلك الوقت على آدميين يعيشون في بلد متخلف ومعزول عن الدنيا كاليمن، بل إن علماء كانوا موجودين في القارة الأوروبية المتقدمة، لم يتصوروا حدوث مثل هذا، حتى إن عالم فيزياء ضخما هو اللورد كلفن كان في العام 1899، يجزم أن الآلات الطائرة الأثقل من الهواء مستحيلة!
قد يبدو هذا إعجازا أو سبقا علميا مقنعا لبعض القراء المتعجلين، بينما لا شيء من ذلك في حقيقة الأمر، لأن الشاعر عني بقوله: راكبة الهواء، الناقة، ويفهم ذلك بسهولة من البيت الذي سبق البيت محل الاستدلال، إذ قال في القصيدة نفسها:
على وجناء تخترق الموامي وتجتاز المياه على الظماء
وإنما جعلنا في شعر الآنسي إعجاز علميا، بالاحتيال كما يحتال على كلمات القرآن المشتغلون بالإعجاز العلمي في القرآن، حيث اخترنا من قصيدته بيتا فصلناه عن ما قبله، وعن ما بعده، ثم بعد ذلك اخترنا من البيت تلكما الكلمتين: راكبة الهواء، دون سواهما، لكي نقرر أن في كلامه إعجازا علميا.. وبمثل هذه الطريقة يأتي القوم بالإعجاز العلمي في القرآن، ليثبتوا أنه يحتوي على نظريات الفلك والفيزياء والكيمياء والطب وحتى الخلايا الجذعية، بينما هذه علوم ترك أمرها للبشر، ولم يأت بها قرآن ولا توراة ولا أنجيل، وليس من العيب أن خلو هذه الكتب من نظريات علمية، إنما العيب أن ننسب إليها ما ليس فيها ولا من اختصاصها.