مقالات

وداعًا الإنسان الحكيم !!

من سوء حظ الفقيد الراحل اللواء علي قاسم طالب ، أنه كان محافظًا في المكان والزمن الخاطئين ..
سبعة أعوام غلاظ شداد ، وهي أكبر مدة مقارنة بنظرائه ، لكنها الأسوأ على الاطلاق ، فأول شيء وقف في وجهه هو إنتخابه ومن سلطة محلية غالبية أعضائها من أحزاب المشترك وليس من المؤتمر الحاكم والمهيمن على معظم محافظات اليمن ، وفق انتخابات سبتمبر ٢٠٠٦م .
المسألة الأخرى إنه ومنذ وصوله منتصف العام ٢٠٠٨م والرجل في مواجهة إثبات وجوده كمحافظ وفي بيئة معارضة وبقسوة ، ولولا حنكته لما بقي في كرسيه بضعة أسابيع ، ومع ذلك قدر باستمالة أغلبية المعارضة وبشكل مثير للدهشة والإعجاب .
ما لا يعلمه الكثير هو أن الإدارة المدنية غير العسكرية ، فشتَّان بين أن تكون قائدًا ويخضع مرؤوسيك لك بحكم تراتبية النظام الصارم ، وبين أن تكون مسؤولًا مدنيًا ولمحافظة كل ما فيها يغلي وينفجر في وجهك ويتوجب عليك أن تكون مرنًا وصبورًا وممسكًا العصا من وسطها وليس من طرفها .

اللواء علي قاسم طالب


ما لم يكن في حسبان المحافظ هو أن انتخابات الرئاسة والمحليات سبتمبر ٢٠٠٦م ومن ثم إنطلاقة ما سمي وقتها بالحراك الجنوبي نهاية مارس ٢٠٠٧م كان أن أفرزت واقعًا جديدًا ، من جهة زيادة رقعة الإحتجاج ، وكذا سقف المطالب والحريات .
لهذا وجد ذاته منشغلًا بتهدئة او مطفئًا الحرائق المستعرة هنا أو هناك ، والمؤسف أن أغلب جهده أهدر في مواجهة من يفترض أنهم رفاق وأبناء يشاطرونه اهتمامه بالتنمية والخدمات الأساسية ..

قلت ذلك ومرارًا : لا استطيع مضاهاته بأسلافه ، كما ولا استطيع الحكم عليه بالإخفاق ، فالفقيد دُفع به إلى وظيفة لا يحسده عليها عدوه ، حاول جاهدًا أن يرضي الجميع ، فلأنه أفلح تنمويًا بسبب تعنت ورفض الساخطين الذين حالوا دون تنفيذ مشروعات حيوية كالماء والصرف والطرق ، أو أنه نجح أمنيًا فرضي عنه نظام صالح .
نعم كان قائدًا عسكريًا مميزًا ، وأثبت أنه كذلك حين رمى به صالح إلى مسقط رأسه ” الضالع ” ولمهمة إدارية مدنية . كان مرنًا وحذرًا أكثر من اللازم ، فلم يرد استخدام القوة خشية من تبعاتها وفي وقت يحتم عليه استخدامها .
كان حذرًا وصبورًا ولحد أنه ضحى بذاته ومنصبه ، فلم تكن تستهويه لغة العنف ، ربما تجربته العسكرية المديدة جعلته يتعاطى مع المشكلات بحكمة وعقلانية ، رافضًا القتل والسطوة والجبروت ، وأن حدثت فإنها تجاوزًا لمشيئته ، وقد أعرب عن ذلك صراحة وفي مواضع عدة .
لقد كانت الضالع مساحة ساخنة ولا ينفع لها وليًا أو نبيًا ، فجُل ما فيها يستلزمه اشياء تفوق قدرات وامكانيات المحافظ ، وأقصد هنا صانع القرار الذي غفل أو أهمل حقيقة أن الحرب لا تصنع استقرارًا سياسيًا ، وإنما توجد ندوبًا وشروخًا عميقة في نسيج المجتمع .

قد يتساءل أحدكم : الفقيد صالح الجُنيد عُيِّن في ظرفية أسوأ بكثير ، إذ كانت الحالة وصلت للمواجهات العسكرية ، ومع ذلك أوجد استقرارًا وتحققت تنمية غير معهودة في تاريخ الضالع .

وسؤال مثل هذا قد يبدو صحيحًا ، لكننا وإذا ما نظرنا للتاريخين فلن نعثر على مقاربة منصفة ، فعلى الأقل في عهد الجُنيد كانت هناك ثمة دولة قوية ومتماسكة ، كما والرئيس الأسبق صالح كان في أوج نفوذه وقوته ، بينما في زمن طالب كل شيء بدأ يتهاوى ويسقط رويدًا رويدًا .

حين علمت أنه في صنعاء أسوة بالكثير ممن جلبهم نظام صالح إلى السبعين هاتفته من البيت وبحضور ندمائي في المقيل ، قلت له : أخي المحافظ أخشى أن تكون مُعبِّر بعد سيل ، فطلب أن أعيد ثانية ما قلته ، فأعدت عليه ، وهنا أطلق ضحكة مدوية ، طبعا عرف مغزى القول الشهير عندنا في الضالع ، إذ لا فائدة ترجى من إرهاق نفسك في إصلاح مجرى السيل بعد سقوط الغيث وزوال الوقت .
حاول أن يفعل شيئًا لأبناء محافظته ، لكن تلك المحاولات ذهبت سدى بسبب الظروف الأمنية والسياسية التي كانت سائدة وحالت دون استفادة المحافظة من وجوده .
أوفد المركز الوزير الألمعي الراحل عبد القادر هلال ،وزير الإدارة المحلية ، في مهمة تهدئة للحالة التي هي في الأساس سياسية ونتاج لمقدمات وإرهاصات بلا حصر ، ولقد نجح نسبيًا في الممكن مثل إعادة عشرات القادة العسكريين والمدنيين المسرحيين قسرًا ، وعمل مصفوفة بكامل إحتياج السكان .
لكن الغليان كان أوسع وأشمل ، إذ تبددت تلك المبادرة وانتهت في أضابير المركز ، كما وزادت الحالة حرجًا وسوءًا حين زادت رقعة الإحتجاجات الشعبية وبدأت نذرها تقترب من الحاكم ودائرته في صنعاء العاصمة .

ما أكتبه الآن ليس تبريرًا ، بقدر ما هو واقع يستحيل تجاوزه ، فالمحافظ تسلَّم السلطة وفي ظرفية حرجة يستعصى فيها إحراز النجاح بسبب الأوضاع الأمنية والإقتصادية المتأزمة .

اختمرت في ذهنه فكرة مغايرة لم تكن بحسبانه أو تقديرات أحد أخر ، وهي أن يكرس جُلّ وقته وجهده لمهمة تجنيب المحافظة الصدام العنيف ، نجح في احايين وأخفق في غيرها ، وهكذا ظل حاله وإلى أن انتقلت تلك الانتفاضة الشعبية من الضالع وجوارها إلى العاصمة وسواها .

كان من النوع الذي يستوعب ويدرك ، ولديه نوايا حسنة ، صبور ووثوق وأخلاقه عالية ، فلم أسمع منه بذيئًا أو إساءة جارحة لكرامة أحد ، على العكس من ذلك فحتى في أوقات إنزعاجه أو إنفعاله من مسؤول أو فعل رأيته حصيفًا ومهذبًا ودون تشهير أو إساءة .
كنت اعاتبه بكونه لم يتستخدم تلك القوة العسكرية والأمنية المسلطة على التظاهرات السلمية ، بحيث يتم توجيهها ناحية من يقطع الطريق ويخرب الكهرباء ويمنع التنمية ، فإجده ضاحكًا وقائلا : وانا مثلك اريدها ، ولكن حين تخرج الدبابة من المعسكر وتطلق أول قذيفة فلا أحد يسمعنا ، الكل أصنج يا محمد “.

كان أبًا ورفيقًا وقائدًا ومحافظًا من نوعية فريدة ، ويقينًا أن الظروف كانت أكبر منه وسيأتي اليوم الذي سينصفه وسيروي للإجيال القادمة معاناته مع أهله ورفاقه الذين خذلوه وفي أشد الأوقات حاجة لهم .
الله يرحمك أيها الإنسان الحكيم ، ويتغمدك الله برحمته وغفرانه ، ويسكنه الفردوس الأعلى ، ويلهم ابنائك وأقاربك وأصدقائك الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون ..

محمد علي محسن

زر الذهاب إلى الأعلى