مقالات

اليمن من منظور عماني

تمكنت عمان بحذق وصبر شديدين من ترسيخ نهج في ممارساتها الخارجية أبعدها عن المحاور والاستقطابات التي عانت منها ولا تزال دول عدة في العالم العربي، وهو أمر غاية في الصعوبة داخل منطقة تتعرض باستمرار لاهتزازات شديدة وارتدادات أعنف، ولكنها على الرغم من كل العواصف التي ضربت العالم العربي، ولا تزال، في مغربه ومشرقه، تمكنت في عهد السلطان الراحل قابوس -رحمة الله عليه- من النأي بنفسها عن خوض التجارب المكلفة، وهي سياسة أكدها السلطان الحالي هيثم بن طارق، وهو الذي اختبرها وكان قريباً من مشاهدها في كل المواقع التي تولاها في عهد سلفه.
لا شك أن عمان تمتلك ما يكفي من الأوراق التي تجعلها قادرة على الحديث أولاً إلى كل الأطراف اليمنية وكذلك الإقليمية المنخرطة في تسليح وتمويل المشاركين في الحرب الأهلية، كما أنه مشهود لها بمهارة الإنصات بهدوء إلى الجميع، وذلك يتيح لها الوقوف على مسافة واضحة من الجميع من فوق قاعدة صلبة على الرغم من كل الاتهامات التي وجهت إليها، وفضلت ألا ترد على أي منها، بل إنها لم تحاول حتى الدفاع عنها قناعة منها أن الأيام كفيلة بإزالة الشكوك عن المواقف التي بدت ملتبسة للبعض.
وفي مسقط يعيش عدد من الساسة اليمنيين الذين يمثلون توجهات سياسية مختلفة حد التناقض، لكنهم جميعاً ملتزمون بقواعد السلطنة التي لا تسمح على الإطلاق بأن تصبح منطلقاً للإساءة إلى علاقاتها مع أي طرف إقليمي أو دولي، وهي مسألة لا تحيد عنها ولا تستخدمها أداة ضغط أو ابتزاز في تعاملاتها مع أي دولة مهما بلغت الخلافات وتعالت الأصوات. وقد استوعب اليمنيون المقيمون في مسقط هذه القاعدة الثابتة، كما أنها أتاحت للمسؤولين في السلطنة الحديث إلى الجميع من دون تحفظات ولا شروط ولا رغبة في الاستقطاب.
ومنذ أشهر يجوب المبعوثان الأممي والأميركي عواصم المنطقة ويتوقفان في مسقط في كل زياراتهما، ولكنهما لم يتمكنا حتى الآن من وضع أقدامهما على بداية المسار الذي يجب انتهاجه للخروج من مأزق الحرب، بسبب استمرار تردد جماعة “أنصار الله” الحوثية في مواصلة الاجتماع بأي منهما، بمبرر أن تصريحاتهما لا تشكل قاعدة للبدء في حوار بناء، ويقولون إن الولايات المتحدة ليست وسيطاً نزيهاً بل تراها الجماعة شريكاً أصيلاً في الحرب، وفي الوقت نفسه يتهمون المبعوث الأممي بالانشغال بزيارات ولقاءات مع أفراد وجماعات لا تمثل وزناً حقيقياً على الأرض، وأن نشاطه ليس موجهاً لتلبية شرطهم الأساسي في الموافقة على فتح مطار صنعاء أمام الرحلات التجارية وتشغيل ميناء الحديدة بصورة كاملة.

وهكذا تسعى مسقط جادة وبنزاهة إلى القيام بدور الوسيط النزيه لنقل وتقريب الأفكار التي يتشبث بها كل جانب من دون محاولة لفرض رأي محدد إلا إذا طُلب منها ذلك، وحين تفعل فإن ذلك يكون من باب النصح برغبة صادقة منها في دفع الجميع نحو بدايات لحوارات تنهي حال الجمود في مسار السلام الذي يراوح مكانه منذ سبع سنوات، بدأ في الكويت وانتهى باتفاق ستوكهولم.

أنا على يقين أن السلطنة مقتنعة بأن توقف الحرب لن يحدث من دون تنازلات قد يكون من الصعب تقبلها، ولكن الأهم من كل ذلك هو حصولها على ضمانات بأن ما تتوصل إليه أطراف الحرب من التزامات لن يتم خرقها أو تجاوزها، وهي قضية شائكة لأن مسقط لا ترغب في الزج بسمعتها في اتفاق لا يتم تنفيذه بعد التوقيع عليه. ومن هنا فإنها تتريث في استخدام كامل دبلوماسيتها الناعمة قبل أن تقتنع القوى المتحاربة بأن الوقت قد حان لتوقف أصوات المدافع.
لقد سمعت من كل الذين التقيتهم بأن غاية السلطنة في كل تحركاتها وجهودها هي المواطن اليمني أولاً وكل مواطني المنطقة، ويعبرون جميعاً عن حزنهم على حجم الدمار الذي طال البلد والأعداد المتزايدة من القتلى والجرحى، ولكنهم أيضاً لا يخفون قلقهم من الآثار المستقبلية التي ستلقي بظلالها السوداء على المنطقة برمتها، ما يستدعي اقتناع الجميع بحيوية وقف الحرب فوراً وفي أقرب الآجال ليتفرغ الجميع إلى إعادة الإعمار.
إنني على أمل في أن تسفر الزيارات المتعاقبة التي مرت والقادمة على أعلى المستويات من البحث المعمق حول كل قضايا المنطقة لا سيما اليمن، التي صارت ترغب مسقط والرياض في طي ملف الحرب فيها لأنها تؤرق الجميع وتشغل قادة المنطقة عن قضايا مصيرية كثيرة، مثل الأوضاع المالية والاقتصادية التي تكبح جماح خطط التنمية، والعاصمتان لا بد أنهما تدركان أن كل الإمكانات يجب إنفاقها في هذا المجال من أجل الأجيال الصاعدة. ومن المؤمل عند كل يمني يعمل لوقف الحرب أن تسهم الزيارات والاتصالات المستمرة بين المملكة والسلطنة في توصلهما إلى رؤية مشتركة عن الكيفية التي يمكن من خلالها الدفع بمسار السلام في بلد جار لهما.
ومن الطبيعي أن أية جهود تبذلها مسقط لن يكتب لها النجاح ما لم تكن الأطراف اليمنية مندفعة في اتجاه إنجاحها، وهذا ما يصيب البعض في مسقط بالإحباط من عدم التعامل معها بالجدية اللازمة، وعلى الرغم من ذلك فإنها لم ولن تتوقف عن مواصلة الدور الذي يعيد إلى اليمن سلمها الوطني، ويحمي ما تبقى من نسيجها الاجتماعي، وهي معضلة تحملتها السلطنة بكل الرضا على الرغم من كل تبعاتها وما تسببه من انشغال.

زر الذهاب إلى الأعلى