سداسية (رحمة) عليها السلام
في 1 يناير 2015 لفظ أبي آخر أنفاسه في أحضان شقيقتي رحمة -رحمها الله- التي تكفلت برعايته من لحظة إصابته بجلطة دماغية مطلع الألفية في دارها بقريتنا “ظبي”.
جانب من قرية ظبي في الأعبوس
وفي اليوم التالي وصلتُ إليها مرضوضًا، خائرًا ومتأخرًا من طريق منخورة بالحُفر و الكمائن والحواجز المسلحة ونقاط التفتيش التابعة لمليشيات “الموت لأمريكا”، التي كانت بعيدة يومذاك عن القرية ولم يخطر على بال أو خيال أحد بأنها ستصل إليها.
بعد أن أجهشت باكيًا بين يديها، كررت عليها اعترافي للمرة الألف، بأنها صارت الملاذ والملجأ والشخصية الاستراتيجية في العائلة.. وذكَّرتها متأوهًا بأنني أوشكت أن أقضي عليها دونما رحمة في مطلع شبابي الثوري عندما سوَّلت لي نفسي بأن أستقطبها إلى الحزب ولكن الصدف والأقدار تدخلت بعناية وحزم وحالت دون ذلك وإلا كانت القرية ضاعت مني أيضا.
استعادت ابتسامتها الصبوحة ودخلنا في الجد لأخبرها بأن العالم قد ضاق بنا وأن صنعاء لم تعد آمنة وكذلك عدن وغيرهما من المدن، وإني قد عزمت ومعي أسرتي الصغيرة اللجوء إليها، خاصة وأن زوجتي لم تعد قادرة على الخروج إلى الشارع سافرة بوجهها ورأيها كما اعتادت، وطلبتُ منها أن تساعدنا في بناء غرفة ذات شرفة تطل على بندر عدن، غرفة فقط، ذلك غاية ما نتمنى في هذه الدنيا.
ترحمت علينا ووافقت على أن تمنحنا الموقع المناسب لبناء الغرفة في المدرج الصغير الذي يطل على سقف دارها وعلى “خبت الرجاع” وعدن، وحسبت الكلفة ذهنيًا في تلك اللحظة وقالت: “على بركة الله” .. وشجعتني واشترطت عدم التسويف كما في كل مرة والمسارعة في إنجاز “المشروع” في أجل أقصاه يناير القادم.
قررتُ مُداراة الأمر بالكتمان، وصارت “الغرفة” نقطة ارتكازي في تقدير الكثير من الأمور وفي تدوير زوايا النظر بشؤون كثيرة.. ومع “الغرفة” بدأت أشعر بشيء من نشوة الوجود.
فيما كنت أتواصل مع رحمة، كانت المليشيات تتقدم في التلال والجبال لتغدو بعقر دارنا
بعد رجوعي إلى صنعاء التقيت ذات صباح برفيقي وصديقي وجاري العزيز المهندس عبد الغفار الغوري -يرحمه الله- الذي سارع إلى تعزيتي بوفاة والدي.. وتبادلنا أطراف الخيبة والخراب والحسرات والطبطبات، أخبرته بأني قد أتخذت قراري النهائي باللجوء إلى القرية بعد كل الذي صار في دنيانا من كسوف للأحلام الكبيرة وإنكسارات وانهيارات قاصمة للأعمار والظهور.
بارك المهندس قراري وأخبرني بأنه كان سباقًا إلى اتخاذ مثل هكذا قرار وتنفيذه، وقبل أن نتوادع طَّنت برأسي “الغرفة” وأودعته سري، فهش الرجل وبش واستبشر وتحمس وتفاعلنا إلى أن تجرأت وطلبت منه تصميم هندسي للغرفة ووعدني بأنجاز التصميم ولم يأبه لي حين تراجعت وأخبرته بأني قد هندست ذهنيًا الغرفة التي أريدها ولم يتراجع عن اصراره فهو يعرف قريتنا وقد زارها -غير مرة- معية الصديق وإبن العم المهندس زكي العبسي للإشراف على إنجاز إطلالة أكبر في “دار النُكب” طال وتطاول زمن العمل فيها ورحلتُ من البلاد قبل أن تكتحل عيني بها.
قرصته في كتفه مشددًا على كتمان الموضوع حتى على الأقربين، بل وخاصة على الأقربين حتى لا تقوم الدنيا ولا تقعد في وجهي بزعمهم إنني أندفع إلى إفشال أي شيء بتحويله إلى “مشروع” كبير وخطير كما أفعل معك الآن… إلخ.
الصديق عبد الغفار، حليم وحكيم وكريم وهو مهندس عبقري وفنان عظيم ومتواضع بلا حدود و تحمل بصماته وتوقيعه أجمل المعالم المعمارية في صنعاء وغيرها وقد صار كئيبًا بعد انكسار “الثورة الشبابية” ولديه الكثير من الانشغالات والهموم و ينوء بأثقال من الأسى لا تحصى ولا يجوز أن اشغله، لكنه رد عليَّ حينما كررتُ إنها مجرد “غرفة” لاتستاهل: “من قلك هذا الكلام، ليست الغرفة بالأمر السهل والهيِّن يامنصور ومالك الا مايسرك”.
وافقته متوكلًا على الله و”الصبر الإستراتيجي” وهجست بـ : لن تندرج ضمن مشاريعي المستحيلة.
بين الحين والآخر كنت اتواصل مع أختي لأُعيد التأكيد على “الغرفة” والتذكير بأني لن أتراجع من غير أن أتقدم خطوة واحدة لتنفيذ ما انتويت.
ناشدتها ألَّا تفتح باب الدار وألَّا تخرج.. وبعد دقائق: اختزلت مأساة أختي مأساة بلد بكامله
في الأثناء كانت المليشيات تقضم وتنهب الكيلومترات وتزحف وتزرع المزيد من النقاط وتسجل حضورها في المزيد من المواقع والتلال والجبال إلى أن أصبحت في عقر دارنا و: “الغرفة”!.
في بداية يناير 2016 احتدمت المعارك حول دار شقيقتي و تخندق الأوغاد من مليشيات الطرفين في التلال والمغاور المقابلة والخلفية للدار و وصلتنا هذه الأخبار إلى صنعاء وكان علينا أن نصدق ما لايصدق.
قبل التاسعة من صبيحة التاسع من يناير اتصلت بها، فاطمأن بالي حينما ردَّت علي ضاحكة بأن اطمئن، فيما النيران كانت تلعلع وتنسكب حولهم وعليهم، وناشدتها ألَّا تفتح باب الدار وألَّا تخرج.. وبعد دقائق: وقع المحذور واختزلت مأساة أختي مأساة بلد بكامله.
لقد قتلت “رحمة” برصاصة قناص حوثي لئيم في تمام التاسعة وكانت فاجعة رحيلها موجعة لنا حتى اليوم، وبعدها لم يستقر لي قرار، وفي وقت لاحق حاولت عبثًا العثور على صديقي المهندس عبد الغفار لأخبره بأن يصرف نظره عن “المشروع” الذي بيننا وعلمت -فيما بعد- أنه تستر هو الآخر على آلامه وانطوى على احتضاره ونفذ قراره باللجوء إلى القرية وهناك فارق الدنيا بعد بضعة أشهر على رحيل “رحمة”.
تداعيات الفاجعة
في الساعة التاسعة من صباح الـ9 من يناير 2016 قُتلت شقيقتي رحمة برصاصة قناص حوثي -مقذوف بي 10- حينما كانت تطعم بقرتها بجوار باب دارها حيث اخترقت الرصاصة وجهها وخرجت من قفاها وسقطت صريعة، خامدة الأنفاس، مضرجة بدمائها أمام بناتها الثلاث اللواتي انصعقن وانعقدت ألسنتهن من الذهول و من هول ما حدث لأمهن أمامهن، قبل أن يملأ عويلهن السماء.
ومن يومها انقلبت حياتهن رأسًا على عقب، انقطعن عن الدراسة وأصبحن: نازحات في الوطن الذي كان “صرحًا من خيال فهوى”، مع الإعتذار لسيدة الغناء العربي أم كلثوم.
بعد أسبوع نفقت بقرة أختي كمدًا ولحقت بها بقرة أمي المقدسة و دجاجاتها والديك أيضًا، وانكسر ظهرها ولم تعد تحتمل المزيد من النكبات، ففي سنة سابقة فقدت بنتها الموجهة التربوية في حادث سير وهاهي تفقد الثانية برصاصة قناص حوثي، وفقدت المسكينة ذاكرتها وقضت نحبها بعد أشهر، وصارت ديارنا خاوية على عروشها، مهجورة ومغلقة تنعق فوقها الغربان وتعربد داخلها الجرذان ولم يعد لأرضنا من يفلحها.
قبل الفاجعة بعام، وبعد انقضاء أكثر من نصف قرن من إقامتي على الأرض استحوذني وسواس أن أكون مستثمرًا إلى حدٍ ما، وتركز الوسواس حول فكرة اللجوء إلى القرية، وفي السياق شجعت النجل الأصغر لشقيقتي “الشهيدة” والذي لم يكن يفارقها قط، على الالتحاق بدورة تدريبية في تربية النحل لدى صديق سبقنا في اللجوء إلى قريته و تفرغ لتربية النحل هناك وبرع في ذلك، في زمن لم تعد فيه شهادة الدكتوراه التي يحملها تنفع أو تُشبع.
وقد نجح الفتى في الدورة وقرأ كثيرًا عن تربية النحل وكان سعيدًا بأضافة هذا المشروع إلى جانب مشروعه في رعي وتربية الأغنام وحصل على 70 خلية نحل هديةً من صاحبي، وكان يوافيني بمستجدات المنحل أولًا بأول وأنا أتابع أخبار “المشروع” كاتمًا سري وسروري حتى لا يفشل كما فشل “المشروع الوطني” وذات يوم بشَّرني بأن ثمار مشروعنا غدت دانية القطاف ووعدني بأرسال أول قطفة من العسل بعد أيام لأتذوقه قبل غيري.
رحمة، ليست من داعش ولا من الإخوان أو القاعدة ولا تمتلك أي خلفية ثورية.. أختي فلاحة
ولكن: سبقتنا الفاجعة وتدمر المنحل و أبيد عن بكرة أبيه على وقع القذائف والتفجيرات التي زلزلت قريتنا، وتشتت النحل وباد وانتحر، وتسممت الأجواء بالبارود وغبار جحافل القبائل المسلحة التي تقافزت إلى تلك القرية وغيرها بسرعة لا تضاهيها سرعة حيوان الكنغر الاسترالي، وراحت تذبح الأغنام والبقر وتزرع الألغام في الطرقات والمزارع والمراعي وتفجر البيوت وتقيم الحواجز وتكتم الأنفاس وتفتش الناس وتقتلهم وتنكل بهم من ديارهم.
أعرف وأعلم تمامًا بأني متعاقد -من غير إعلان- مع الفقدان والخسران والنحس والدبور منذ وعيت نفسي، وقد أخفيت هذا الأمر على نجل شقيقتي خشية من أن يفزع ويتطير ويتراجع عن مشاركتي في أي مشروع من مشاريعه.. وحينما وقع المحذور أكلني الندم وتعذبت بضغط شعوري المؤلم بوجود رابط خفي بين ما أضمرت من مشاريع وتلك النازلة التي حلَّت بعائلتنا.
تبعد قريتنا “ظبي” (بمديرية الأعبوس) عن صنعاء 300 كم تقريبًا وهي ليست على الحدود مع السعودية وليست ساحة مواجهة، وتقع دار أختي رحمة على قمة جبلية تشرف على مدينة عدن، وهي -أختي- ليست من “داعش” ولا من”داحس والغبراء” ولا من “الإخوان” ولا من “القاعدة” ولا تمتلك أي رصيد نضالي أو خلفية ثورية، بقدر ما تملك مهارات عالية في فلاحة الأرض و نحت الخبز، وشتل الحوش المحيط بدارها بالورود والرياحين والمشموم والليمون والفلفل والطماطم والنعناع، وتملك كنزًا من المشاعر الإنسانية الزاخرة بمحبة الناس تجلى أثره ساطعًا في مواكب النساء الحزينات النائحات المتوافدات إلى بيتها من أماكن وقرىً قصية ومنسية لوداعها وتقديم واجب العزاء، وما أكثر النساء الفقيرات، التائهات اللواتي كُنَّ يلجأن إليها ويستندن عليها في المُلمات وفي أي وقت، ويتقاسمن معها الخبز و الماء و الملح وفنجان القهوة المرة، وهذا نزر مما تناهى إلينا بعد رحيلها الفاجع.
عليك السلام والرحمة يا أختي الغالية رحمة في الذكرى السابعة لرحيلك.
لقد فقدنا الكثير من الأهل والأصدقاء في هذه الحرب، و يمكنني القول بأننا تعرضنا لأكبر عملية تجريف واقتلاع، لم نلمح هاويتها السحيقة حتى في أسوأ كوابيسنا السوداء.