قامت نظرية الخميني والتي على أساسها تم انقلاب 1979 ضد نظام الشاه في إيران، على قاعدة المعاداة لكل ما هو أميركي فصار شعار “الموت لأميركا” ماركة مسجلة للنظام الإيراني الذي أنتج سردية متكاملة من السلوكيات والاصطلاحات والتوجهات التي انطلقت من شيطنة أميركا واعتبار كل الدول المتحالفة مع أميركا في المنطقة مجالا حيويا لتطلعاتها التوسعية لاستعادة الإمبراطورية الفارسية الوئيدة، بعباءة الدين.
وعملت إيران منذ الأيام الأولى لقيام ما يسمى بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، على مهاجمة المصالح الأميركية في المنطقة لإرغام الأخيرة على ترك تحالفاتها الاستراتيجية والانسحاب لصالح تمدد وصاية ولاية الفقيه اللاهوتية، التي لطالما كأنت هي رؤية طهران المثلى للشرق الأوسط في أن تتحول أفكار الخميني الى قوة الهام لملايين العرب والمسلمين.
وخلال العقود الأربعة الماضية، دأبت إيران على تخصيص جل ثروات الشعب الإيراني لصالح تنفيذ رؤيتها التوسعية، فكأنت أولى خطواتها تأسيس “حزب الله” في لبنان في 1982، وتكليفه باستهداف المصالح الأميركية، فتمخض أول اعماله الإرهابية عن مقتل 241 من مشاة البحرية الأميركية “المارينز” بعد أشهر من ولادته. ومازالت الإدارة الأميركية تبحث عن القتلة وقد طالت بعضهم وما زال البعض الآخر طليقا.
وفي العراق أنشأت إيران الميليشيات الشيعية المتطرفة وكلفتها باستهداف الأميركيين، ما أدى الى مقتل أكثر من ألف أميركي في عمليات متفرقة، وما زال التواجد الأميركي المحدود في العراق عرضة لاستهداف يومي من عملاء إيران. وفي نفس الاتجاه وجهت طهران ميليشياتها في اليمن للاعتداء على قطع البحرية الأميركية خلال عبورها جنوب البحر الأحمر، وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2016 تعرضت السفينة الحربية “يو إس إس ماسون” لمحاولة فاشلة من قبل الحوثيين وهي تبحر في المياه الدولية.
ولم تكتف إيران بتحريك عصاباتها في المنطقة لاستهداف أميركا، بل أنها تجرأت وتحولت الى الاستهداف المباشر، وعرض العضلات في المياه الدولية في الخليج العربي في دعوة مفتوحة للمواجهة مع أميركا، فنرى قواتها تحاصر السفن في المجرى الملاحي الدولي وتجبرها على الرسو في الموانئ الإيرانية، في ممارسة للقرصنة الدولية وفي خرق لقانون البحار وحرية الملاحة الدولية.
وكأن آخر ممارسات القرصنة الإيرانية في الممر الملاحي الدولي عند مضيق هرمز احتجاز الحرس الثوري الإيراني الأسبوع الماضي، لناقلتي نفط ترفعان العلم اليوناني بزعم انتهاك القواعد البحرية، مهددة باحتجاز 17 ناقلة يونانية أخرى تتواجد في المنطقة، وتأتي الخطوة رداً على قيام السلطات اليونانية باحتجاز ناقلة نفط إيرانية قرب اليونان تنفيذاً للحظر الأميركي المفروض على مبيعات النفط الإيراني.
ولم يزل خامنئي يؤكد معاداة إيران لأميركا، حيث قال مؤخراً في خطاباته أمام البرلمان، “أن أي خصم لأميركا هو حليف محتمل لطهران”. وكأنت وما زالت أبرز الشعارات التي رفعها ويرفعها الإيرانيون في وجه نظام الملالي وآخرها الشعارات التي يرفعها المتظاهرون هذه الأيام في مدن إيران المختلفة تقول: “يكذبون علينا بالقول إن عدوتنا هي أميركا، وعدونا الحقيقي هو هنا في إيران”، كما ندد المتظاهرون بالموارد المهولة التي تخصصها دولتهم لعملائها في المنطقة فيما الشعب يتضور جوعاً، “لا لغزة، ولبنان، واليمن، فحياتي من أجل إيران!”
تناقض الرؤية، وسقوط الهيبة الأميركية:
خلال العقود الأربعة الماضية عانت الاستراتيجية الأميركية تجاه إيران من التناقضات وعدم الانسجام، وربما وقعت تحت تأثير القراءة المتخيلة التي انتشرت في الغرب عموماً وفي أميركا على وجه الخصوص حول تفوق العقلية الإيرانية، فغالبية صناع السياسة الإيرانية في واشنطن واقعين تحت تأثير اللوبي الإيراني. ولهذا فقد راجت خلال العقود الماضية رؤى متناقضة ومتضاربة حول كيفية التعاطي مع الخطر الإيراني، فهناك من لا يزال يرجح إمكانية تعديل أيديولوجية إيران إذا ما استوعبتها أميركا وطبّعت العلاقات معها.
وهناك قراءة أخرى تصورت أن مجرد أن تبدي واشنطن الصلابة اللازمة سيتراجع ملالي إيران ويقبلون بالحلول الوسط، فيما يعتقد الكثيرون ممن يوصفون في واشنطن بالتقدميين أن تصلب موقف طهران وعنادها ما هو إلا ردة فعل على سياسات أميركا العدائية، وأن هناك الكثير من القواسم والمصالح المشتركة بين أميركا وإيران يمكن البناء عليها، فيما يعتقد بعض المحافظين التقليديين أن العقوبات والمصاعب الاقتصادية ستجبر إيران على هجر أيديولوجيتها المتطرفة من اجل بقاء النظام.
كل هذه القراءات وغيرها عكست فشلاً ذريعاً في معرفة حقيقة إيران الملالي التي تقوم على سردية الخميني الثورية باعتبارها غاية في حد ذاتها، ووسيلة لبقاء نظام طهران الإرهابي، الذي يؤمن بأن استقرار إيران يعتمد بشكل رئيس على عدم استقرار دول المنطقة، وانتشار الفوضى فيها، ووقوعها تحت الوصاية الإيرانية. وأدى غياب رؤية استراتيجية أميركية متفق عليها بين الديمقراطيين والجمهوريين للتعامل مع إرهاب الدولة الإيرانية الذي طال الأميركيين مراراً، الى تغوّل نظام الملالي واعتقاد قادته أن أميركا غير قادرة على مواجهتهم لسيادة عقلية التفوق العقيم لديهم.
بروز القوة الإقليمية وأفول الملالي:
ولطالما راهن ملالي إيران على رؤيتهم العنيفة، والتي يعتبرونها وسيلتهم المثلى للسيطرة الكاملة على المنطقة، وبناء نظام إقليمي يقوم على العنف والكراهية، والتوسعية، والتطرف، والإرهاب. ولم يكن ليخطر في بال ملالي إيران أن السحر سينقلب على الساحر وأن المستضعفين الذين كانوا وما زالوا مركز السردية الخمينية للنظام سيفيقون على صبح من الآلام والمعاناة وسيكفرون بالنظام المجرم وزبانيته اللذين أجاعوهما بعد شبع وأذلوهما بعد عزة.
فها هم الإيرانيون العظماء يسجلون صفحات مشرقة من الانتفاضة ضد نظام الملالي الإرهابي، ويخرجون الى الشوارع في معظم المدن الإيرانية، ضد وضع مزر خلفته أربعة عقود من فكرة تصدير الثورة العقيمة وتخصيص موارد إيران وثرواتها لصالح ميليشيات القتل والتوسع، ويفاخر الملالي بأنهم باتوا يسيطرون على عواصم دول عربية ويجتهدون لنشر الفوضى في دول المنطقة.
اليوم نظام الملالي يترنح، ولم يخطر ببال الملايين المنتفضين في شوارع المدن الإيرانية حتى مجرد التفكير في الأول من فبراير (شباط) 1979، والكلمات التي أطلقها الخميني في طهران من “أن نظام الشاه دمر كل شيء في إيران، الثقافة والجامعات والاقتصاد والزراعة”، حينها كأن جميع من خرجوا الى الشوارع يفكرون في الكيفية التي ستكون عليها هذه الطريقة الإسلامية الخمينية لإصلاح ما أفسده الشاه. اليوم يتحسّر الإيرانيون على ماضيهم وهم يصيحون بأعلى صوتهم أن عدوهم الحقيقي هو نظام الخميني، وأنه لا لغزة، ولبنان، واليمن والعراق وسوريا، فهم بحاجة ماسة للعيش الكريم في وطنهم الذي استحال الى مشروع موت في الداخل وتصدير الموت الى الخارج.
إيران الملالي مازالت تعاند لتسجيل انتصار يعيد سيطرتها على الشعب الإيراني المنتفض، فهي تحاول بكل ثمن العودة الى الاتفاق النووي وتتراجع عن شروطها التعجيزية التي وضعتها في السابق، بما في ذلك لم تعد مهتمة برفع الحرس الثوري الإيراني من قائمة الإرهاب الأميركية، كما أنها تؤكد عدم سعيها لتطوير أسلحة نووية. ويرى المراقبون أن الكياسة الزائدة والمغالية للدبلوماسية الإيرانية هذه الأيام والتي عبر عنها وزير خارجيتها في دافوس مؤخراً، تتكامل مع الدور الذي يلعبه كبير المفاوضين الأميركيين لإتمام صفقة العودة الى الاتفاق النووي، فإيران مستعدة للعودة ربما الى ما هو أسوأ من اتفاق 2015، مقابل رفع الحظر عن الموارد المالية.
ولم يخف وزير خارجية طهران خلال تصريحاته في دافوس، هدفه من التوصل الى الاتفاق للحصول على الموارد المالية والضمانات الأميركية بهذا الصدد، فطهران تجتهد لتفعيل برنامجها التوسعي العدواني، وذلك يظهر جلياً من خطابها الموجه الى المنطقة، الذي يقف على النقيض من المرونة الشديدة التي يبديها خطابها تجاه الغرب لإقناع واشنطن بالعودة الى الاتفاق. وتواصل طهران التكشير عن أنيابها في المنطقة لتسجيل المزيد من الانتصارات الإلهية لتأكيد أنها مازالت قوية، عبر تلويح كل ميليشياتها في المنطقة وبلغة واحدة بحرب لا تذر ولا تبقي ضد إسرائيل وقوى الاستكبار العالمي إن هي مست حجراً من المسجد الأقصى الذي تحول الى حصان طروادة للمشروع التوسعي الإيراني.
ويرى المراقبون أن الحل ليس في العودة الى الاتفاق النووي، بل في قبول طهران تفكيك برنامجها النووي العسكري، فالعودة الى الاتفاق النووي في هذه الظروف يعني ضخ الروح في نظام إرهابي متهالك، قتل الكثير من الأميركيين ويهدد بقتل المزيد من دون رادع من واشنطن. فالاتفاق النووي وأن قررت إدارة الرئيس بايدن العودة إليه من دون توافق في الكونغرس مع الجمهوريين لن تكتب له الاستدامة، بخاصة وأن الجمهوريين يمتلكون فرص للعودة الى البيت الأبيض بعد عامين.
إن احتياجات طهران يمكن التعاطي معها ضمن اقليمها، فيما لو تخلت طهران عن هوسها المرضي في معاداة جيرانها، وتفخيخ كل جسور التواصل، ورفض دعوات الحوار لكبح مساعيها الحثيثة لزعزعة الأمن والاستقرار وتصدير الإرهاب الى دول المنطقة، وأوقفت مغامراتها ضد الممرات الملاحية الحيوية التي تعتمد أرزاق دولها على تأمينه، وعملت على تفكيك شبكة عملائها الذين باتوا عبئاً ثقيلاً عليها وتصل أعدادهم الى ما يقارب المائتي ألف إرهابي يقتطعون مستحقاتهم من قوت الشعب الإيراني، فلم يعد يكفيهم الاتجار بالمخدرات وحبوب “الكبتاغون”، ولا بيع المشتقات النفطية وتهريب الأسلحة.
اليوم بعد أربعة عقود من الحال التي وصلت إليه الأوضاع في إيران بفعل “الثورة الإيرانية”، تشهد المنطقة برمتها تحولات جذرية مع تشكّل قيادة إقليمية حكيمة منفتحة على الحوار وتعمل لصالح دول المنطقة وأمنها واستقرارها وتعظيم مصالحها ومنافعها المتبادلة، وهي قوة قادرة على إخماد كل النيران التي أشعلتها وتشعلها طهران منذ سماعها لتلك الكلمات التي أطلقها الخميني لتصدير الثورة حينما وطأت قدماه أرض إيران، منذ ثلاثة وأربعين عاماً. فهل يمكن اجراء مراجعة تاريخية لنظام الملالي أم أن “الشعب يريد إسقاط النظام”؟.
*وزير الخارجية اليمني السابق