خُطبت “هيفاء” من قبل زميل لها في ذروة حبي لها في الجامعة.. لم أكن أعلم بواقعة الخطوبة، ولكني فقط لمحت دبلة الخطوبة في أصبعها.. كان وقع الصدمة أشبه بوقع الصاعقة.. شقتني نصفين.. سحقت روحي بمجنزرة.. تطاير رأسي كزجاج وقعت عليه صخرة من شاهق.
أحسست أن “الدبلة” التي في أصبعها تطوق عنقي كحبل مشنقة.. الأرض على اتساعها باتت أضيق من خرم إبرة.. خيبة كبيرة تخنق أحلامي بقبضة من حديد.. صدمة تداهم عيوني بزغللة تنتهي بسواد يشبه الموت.. أطبق ملك الجبال على أنفاسي الأخشبين.. أحسست أن وجودي بات معدوماً، وأن مستقبل حبّي آل إلى بدد.. إحباط اجتاحني كطوفان نوح.. أحسست بعظيم الندم، وحسرة تتعدّى أطراف الكون.. فقدان وضياع لا حدود له.
تذكرت مَثَل شعبي كرره أكثر من مرة الدكتور أحمد زين عيدروس بمناسبات مختلفة في قاعة المحاضرات، وهو مثل يُضرب فيمن يستحي من ابنة عمه.. مثل شعبي لاذع ومقذع يدين الحياء ويصعق صاحبة.
أدركني اليأس وصدمتني الحقيقة.. صدمني الواقع بما لا أتوقعه، فيما كان في ظل سلبيتي وترددي يجب أن أفترضه وأتوقعه.. ما حدث كان طبيعياً، وهو الراجح حدوثة، طالما ظللت متردداً ومراوحاً في نفس المكان، ثابت فيه دون مغادرة أو زحزحة، أنتظر دون أن أتخذ قراراً، ودون تحديد زمن لاتخاذ مثل هذا القرار.. كانت خيبتي في النتيجة كبيرة، وكان فشلي في هذا الحب بالغ وذريع.
أحسست أن حبي لهيفاء بات عبئاً يسحق كاهلي.. لم أعد أقوى على الخلاص منه.. سكنته وسكنني حتى بلغ مني، وصار كلِّي وجل تفاصيلي.. تحول الحب الكبير بنقصانه إلى نكبة مضاعفة تلاحقني أينما ذهبت وحللت.
صرتُ منكوباً بهذا الحب الذي أحتلني، ولم استطع الخلاص منه.. صرت أعيش ورطته التي لا فكاك ولا حيلة للنجاة منه.. أسأل نفسي: من ينقذني من قيعان هذه الورطة السحيقة؟! لا حبال ولا سلالم ولا حانية تمد يدها لتنتشلني من جحيمي ومما أنا فيه.
الحب الذي بدأ عظيماً أنتهى إلى جلاد يعذب الروح والجسد.. داء عضال لا أعرف كم أحتاج من السنين لأتعافى منه، وقد بات كبيرا بحجم المستحيل.. غربة مطبقة لا أعرف كيف الخلاص منها، وكيف يمكنني أن أغادرها وهي تحيط بي من كل صوب واتجاه.
أسأل نفسي: كيف يمكنني أن أتجاوز غربتي وهذا الحصار الذي بات شاهقاً سوراً على سور، وحزني الذي أعتله صار أكبر من صاحبه، وما بقي منّي لم يعد يقوى على حمل بقاياي، فمن هذا الذي يحملني ويحمل حزني الذي أحمله؟!! لم أعد أقوى على حمل حطامي، ولا قدرة على استجماع بقايا قواي، وأشتاتي المبعثرة في القيعان السحيقة.
ورغم حطامي وبعثرتي وحزني الوخيم، استجمعت إرادتي وأشتاتي، وما بي من احتقان بدا لي أكبر من مُهين مهول.. أردت التحدِّي والمكابرة حتى وأن بلغتُ بمكابرتي الموت الغليظ.. أردت البحث عن فتاة لا تشبهها فتاة في الوجود.
أردتُ أن أستعيد كبريائي الذي تخليتُ عنه ذات يوم مع من احب.. أردتُ بذل المحاولة لاستعادة وجودي المسلوب دون رغبتي وإرادتي.. أبحث عن استعادة أمل كان قد تحول فقدانه إلى خيبة تبتلعني كل يوم.. قررت أن أبحث عن حب أكبر بكثير مما فقدت.
وفيما كنت أستعرض أمام زميلي عبيد صالح الشعيبي، أوصاف الفتاة التي أبحث عنها وأريدها زوجة لي، وهي كما بدت أوصاف غير موجودة، بل ومستحيلة إلا بقدر.. فاجئني بقوله: “وجدت فتاة تناسبك وبالمواصفات التي تبحث عنها”.
بدا الأمر بالنسبة لي أشبه بتحقيق معجزة.. كان كلام عبيد عن الفتاة التي قال إنها تناسبني مملوء بالجدية والثقة الغامرة والأكيدة، حتى قلتُ في نفسي: ما أعظم حظ سيأتي لأفوز بحب يتعالى ويزدري كل حب مر بي.. سيكون انتصاراً ساحقاً لا سابق له في الحب والحرب.
كدتُ أطير من الفرح.. شعرتُ أن الدنيا تبتهج في عيوني مرة أخرى، بعد أن أحلكت سواداً وقتامة، وأطبقت عليّ خيبة كبيرة وعريضة.. توقعت أن القدر يريد أن يعوضني عمّا فات من معاناة، وعن خيباتي التي تكاثرت، وبأحسن مما طاله الفقدان.
صديقي عبيد بذلك الكلام أحياني وبعثني من حطامي، وهو يصفها كرسام ماهر ومحترف، وهو لا يعلم حقيقة ما أعانيه في كتماني من الحب الذي تركني نهبا لأسواط العذاب.. ظننتها وهو يصفها حورية من السماء، وبقي السؤال الذي يرفسني من الداخل دون أن أبوح به: كيف لفتاة بوصفه أن تفلت من عيون البشر، وقبلها من قلب عبيد وعيونه؟!
لقد كانت لكلمات صديقي عبيد وهو يقول: “وجدتُ من تناسبك”.. وقعها على نفسي، أشبه بوقع كلمات أرخميدس وهو يقول “وجدتها.. وجدتها..” كنت أستعجله وألح عليه أن يعجل بلقائنا وهو يرجئ المواعيد.. كنت أصبّر نفسي وأقول: وهي بتلك الأوصاف، فإنها تستحق مني الصبر والانتظار والجعجعة، فيما لهفتي لها كل يوم، كانت تكبر وتتضاعف وتشتد.
وعندما جاء الموعد الأكيد، حط بنا الرحال في “زعفران كريتر”.. كانت لهفتي تسبق خطواتي وتستحثها على أن لا تتأخر.. لهفتي تزداد لمن أظنها عوض الرب، والمنتهى لما سيستقر عليه خياري.. أوقفني عبيد فجاءة، وأنحاز جانباً كمن ينصب كميناً، أمام معرض تجاري فخيم، لبيع ملابس نسائية جاهزة، ثم همس بإذني: “إنها تلك التي خلف الزجاج”.
لم أشاهد خلف الزجاج أي فتاة .. ولمّا لم أستوعب الأمر أشار إليها بالبنان، وقال: “هذه هي من تبحث عنها وتناسبك”.. الحقيقة لم تكن فتاة وإنما كانت دمية على هيئة فتاة جميلة بملابس أنيقة..
وبقدر شعوري بالغضب وبالمطب الذي صنعه لي صديقي، انفجرنا بالضحك معاً.. كانت ضحكتي أكثر دوياً وجالبة للانتباه والفضول.. شاهدنا المارة وهم يتطلعون إلينا بفضول وتسأل!! مشدوهة عيونهم نحونا، دهشة وغرابة تعلو وجوههم جعلتنا ندرك أننا في شارع عام.