هل تقترب الوساطة الأممية من السلام أم من جولة حرب جديدة؟
مر عامان على اتفاق هدنة أبريل 2022، وهو الحدث الذي اعتبره المراقبون للشأن اليمني أهم إنجاز للمبعوث الأممي إلى اليمن هانس جروندبرج منذ اندلاع الحرب في البلاد.
لم يدم الاعتداد بذلك الإنجاز كثيرا، ففي مطلع أكتوبر من نفس العام تعثرت جهود جروندبرج في تمديد الهدنة لمرة ثالثة، كما لم تمر سوى أسابيع قليلة حتى صعدت المليشيا الحوثية الوضع باستهداف موانئ تصدير النفط والغاز في حضرموت وشبوة، طارحة شروطا جديدة على مسار الوساطة الأممية بتقاسم الإيرادات النفطية مع الحكومة الشرعية.
ورغم تعثر الوساطة الأممية ودخول المملكة العربية السعودية في مفاوضات مباشرة مع المليشيا الحوثية بتسهيل من سلطنة عمان، إلا أن العام 2023 شهد انتعاشا لآمال إحياء المسار التفاوضي حين سلمت الرياض مسودة اتفاق (خارطة طريق) إلى جروندبرج للعمل على استكمالها بالتشاور مع الأطراف اليمنية. لكن التطورات الإقليمية لم تمهل جروندبرج لاستكمال تصوراته لخارطة الطريق المنشودة، حيث تأزم الوضع في المنطقة بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ودخول الحوثيين على خط المواجهة باستهداف السفن المرتبطة بإسرائيل أثناء مرورها في المياه اليمنية.
ألقت هذه التطورات بظلالها على المشهد السياسي والاقتصادي في اليمن، وحاول جروندبرج، كما قال لمجلس الأمن في إحاطة فبراير 2023، حاول “عزل عملية السلام عن الديناميات الإقليمية الأوسع، إلا أن الواقع يبرهن بأن جهود الوساطة في اليمن لا يمكن النأي بها عما يحدث”.
تقلص طموح جروندبرج حينها من إنعاش المفاوضات السياسية إلى “حماية الفضاء السياسي” فقط، وإبقاء “قنوات التواصل مفتوحة” أمامه مع “جميع الجهات الفاعلة” في الملف اليمني.
وفي نفس الإحاطة، اقترح جروندبرج على مجلس الأمن ثلاثة أمور قال إنها “يجب أن تحدث في المدى العاجل لإيجاد مخرج من هذه الدورة التصعيدية الخطيرة الحالية”. وركز مقترح المبعوث الأممي على:
1- خفض للتصعيد على المستوى الإقليمي، أي في غزة، بحيث تنخرط الأمم المتحدة مع الجهات المعنية بهدف تشجيع منح الأولوية لاستخدام القنوات الدبلوماسية تحقيقًا لذلك الغرض.
2- أن توقف الأطراف اليمنية الاستفزازات العلنية، والامتناع عن استغلال الفرص العسكرية داخل اليمن في هذه المرحلة الحساسة.
3- إعادة تركيز الأطراف اليمنية على حماية التقدم في جهود التسوية السياسية الذي تم تحقيقه حتى الآن نحو التوصل إلى اتفاق.
وقد بشّر جروندبرج في السياق ذاته بأن مكتبه يحضّر لإنشاء لجنة اقتصادية مشتركة تشرف على تسييرها الأمم المتحدة “لدعم تنفيذ التدابير الاقتصادية المتفق عليها والتفاوض على أولويات أخرى قصيرة وطويلة الأمد”. لكن كل هذه المقترحات والمساعي الأممية اصطدمت بتصعيد مليشيا الحوثي لهجماتها على الملاحة البحرية وتجنيد مئات الآلاف من المقاتلين تحت غطاء مناصرة غزة والقضية الفلسطينية، وإرسالهم إلى جبهات القتال في مأرب وشبوة وتعز والضالع والحديدة والجوف، وهي نفس الجبهات التي عبر جروندبرج عن قلقه من التصعيد فيها في إحاطته لشهر فبراير، إضافة إلى محافظة صعدة.
شهر واحد فقط يفصل بين إحاطتي المبعوث الأممي لمجلس الأمن لشهري فبراير ومارس، لنجده في إحاطة مارس يبدي مخاوف جادة من أن “يزداد احتمال تغيير أطراف النزاع في اليمن لحساباتها وأجنداتها التفاوضية” مع ازدياد “تداخل المصالح”، في إشارة إلى الصراع الدائر بين أمريكا وبريطانيا من جهة، وبين إيران وروسيا والصين من جهة أخرى في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن ومضيق باب المندب.
وأضاف جروندبرج: “في السيناريو الأسوأ، قد تقرر الأطراف الانخراط في مغامرة عسكرية محفوفة بالمخاطر تعيد اليمن إلى حلقة جديدة من الحرب”.
ليس سهلا أن يصدر مثل هذا التحذير من مبعوث أممي يسعى إلى النجاح في مهمة وساطة تتركز عليها أنظار الدبلوماسية الإقليمية والدولية مجتمعة، لكنه لن يستطيع تجاهل ما يحدث على الأرض أكثر من ذلك. وفي إحاطة مارس الأخيرة، كرر جروندبرج الحديث عن التصعيد العسكري في جبهات: مأرب وصعدة وشبوة وتعز والحديدة، مضيفا محافظة لحج إلى قائمة الجبهات التي توشك على الانفجار.
كما أفاد بصريح العبارة بأن هناك اشتباكات حدثت في هذه الجبهات خلال النصف الثاني من فبراير والنصف الأول من مارس، بين المليشيا الحوثية والقوات الحكومية، إضافة إلى تحركات مكثفة لقوات الطرفين، والتهديد علنا بالعودة إلى الحرب. وفي مشاوراته مع مؤسسات المجتمع المدني في اليمن، قال إن كثيرين أعربوا عن مخاوفهم من احتمال تصاعد القتال في البلاد.
رغم تأكيدات المبعوث الأممي إلى اليمن، هانس جروندبرج بأنه سيستمر في بذل وحشد الجهود للوصول إلى تهدئة وخفض تصعيد في ظل هذه الظروف المشحونة، إلا أن معادلة التوتر هي من ستقول الكلمة الفصل عند وصول الاستفزازات الحوثية إلى درجة عدم قدرة الحكومة الشرعية على تحملها. وإذا كانت مبادرات فتح الطرقات تعطي انطباعا بالأمل في التهدئة وجنوح الأطراف إلى خفض التصعيد وإعطاء الفرصة لجهود الوساطة الأممية والإقليمية والدولية لتطوير خارطة الطريق المنتظرة، فإن هذه المبادرات يمكن قراءتها من زاوية أخرى. أي من زاوية أن مجلس القيادة الرئاسي والأطراف الممثلة فيه، يعطون المليشيا الحوثية فرصة بعد أخرى لإبداء حسن نواياها إزاء جهود السلام وفتح الطرقات، بينما تصر الجماعة على الرد على مبادرات المجلس بمبادرات غير جادة تجسد استخفافها بالقوى الوطنية المناهضة لها، وبمعاناة اليمنيين جراء إغلاق الطرقات وحصار المدن المحررة.