بنات بغداد
كأي واحد من أبناء بغداد وأبناء جيلي لقيت من المرأة العراقية ما لقيته من صد وصدود وهوى معذب مردود. كان من حلقات هذا التاريخ زميلة التقيتها في لندن في الستينات. همت بها لردح من الزمن ثم غسلت يدي منها مدركاً عبث المسعى. وقع في حبها زميل لي ولكنه لم يتعظ بي. فواصل هذا القتال غير المتكافئ: مصري غلبان وعراقية مدللة. كان يجلس كل يوم في المقهى، يدخن ويشرب وينتظر انتهاءها من العمل. هام بحبها إلى حد الجنون. يئن ويتوجع لي ويقول آه من العراقيات. في هذه الأيام يقولون يا ويل للعراقيات المشردات والعاطلات. ولكنني أتكلم الآن عن أيام الخير. عبثاً حاولت أن أثنيه عن هوسه بها.
قلت له: يا رجل نحن أمة بدوية ونقول أرض الله واسعة. والإنجليز يقولون البحر مليان سمك. فتش لنفسك عن سمكة من غير سمك الشبوط العراقي. هناك ثلاثون مليون امرأة في بريطانيا من شتى الجنسيات. فتش لنفسك عن زوجة صالحة بينهن. ولكن ما الفائدة. الحب أعمى. راح يوسطني في الموضوع. قلت له يا عزيزي، المرأة العراقية لا تسمع كلام أحد. لو نفع كلامي معها لتوسطت لنفسي. جلسنا وبحثنا. ما هو سر المرأة العراقية؟ إنها ليست بجمال اللبنانيات والسوريات، ولا بحلاوة لسان المرأة المصرية، ولا بثروة الخليجيات. فما سرها وسحرها؟ ألأنها تجيد طبخ البامية أحسن من غيرها؟
وهذا أمر له بعده التاريخي. فأشهر قصة غرام في التاريخ العربي هي قصة مجنون ليلى. قيس بن الملوح الذي جننته المرأة العراقية.
يقولون ليلى في العراق مريضة
فيا ليتني كنت الطبيب المداويا
يتردد هذا الجنون بالعراقيات في شتى المصادر. لعمر بن أبي ربيعة قصيدة طويلة يتغزل فيها بابنة الرافدين. وهو كذلك يشكو من صدودها وتكبرها عليه:
لمما شقائي تعلقتكم
وقد كان لي عندكم مقعد
عراقية وتهامي الهوى
يغور بمكة أو يُنجد
عبر عن مثل هذا الهوى العارم ابن زريق البغدادي بعد نزوحه إلى بلاد الأندلس. وقد ظل طيف بغداد والبغداديات يلاحقه:
استودع الله في بغداد لي قمراً
بالكرخ من موطن الأفلاك مطلعه
لقد يعود سحر البغداديات لصفة «التبغدد» التي أصبحت كلمة شائعة كمرادف للدلع والتأنق، وهو ما أشار إليه الجواهري في قصيدته «يا دجلة الخير».
يا أم بغداد من ظرف ومن غنج
مشى التبغدد حتى في الدهاقين
ويظهر أن المتنبي عانى مثلما عانينا من تبغدد العراقيات فهاجمهن وقارن تبغددهن بجمال البدويات:
ما أوجه الحضر المستحسنات به
كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
ما إن وطأت قدم الشاعر أرض بغداد حتى هجمن عليه وأشبعنه ضرباً بأحذيتهن!
إيه يا بنت بغداد يا أم الحضارات وهذا الحضيض الذي رماك به الزمن، زمن الإرهابيين والمتزمتين والمتخلفين والانتهازيين.