عمائم الإسلام السياسي.. الثورة والفتنة
عندما تُحدد مواقف رجال الدّين وفق الهوى الحزبي السِّياسي؛ فالمتضرر منها الدِّين والنَّاس. هذا ما نفهمه مِن خطاب عمائم الإسلام السِّياسي العِراقي، بعد أن استفزتهم التَّظاهرات التي انطلقت مؤخراً بكثافة، على الرَّغم مِن سقوط الضَّحايا، الذين كانوا صبياناً وأطفالاً لما تربع الإسلام السِّياسي على مقدرات البلاد.
كانت تلك العمائم تصرخ بالثَّورة، وأخذت تُفسر وتأول النُّصوص الدِّينية لمصلحتها، لكن ما إن انقلبت الثَّورة ضدها، أخذت تستنجد بالنصوص التي لا ترى الثورة على الحاكم، وإن كان ظالماً. وظف أحد المعممين قول علي بن أبي طالب(اغتيل40هـ) لكبح التَّظاهرات، على أن المتظاهرين «خوارج»: «لكِنَّ هؤُلاَءِ يَقُولُونَ: لاَ إِمْرَةَ، فَإِنَّه لاَ بُد لِلنَّاس مِنْ أَمِير بَرّ أَوْ فَاجِر، يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِه الْمُؤْمِنُ، وَيَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ»(نهج البلاغة).
استند هذا الرَّجل، الذي استلم السُّلطة بشعار الثَّورة، وهو اليوم لا يراها حقَّاً على اعتبار أنها «فراغات سياسية طالما حذر منها الأئمة… تصبير الإمام لا بد للناس مِن أمير بر أو فاجر، حتى لو ظالم». حذر من التَّظاهرات لأنها تُهيج الفتنة: «إخوان، الفتن فيها طبيعة خداعة، وهذا الخداع الموجود شلون(كيف) نتخلص منه، أنا أرجع وأقول: الفتن أدواتها وأسلحتها هي أمراض سلوكية». لكن عندما كان هو وأمثاله ثوريين، لم تكن ثورتهم مرضاً سلوكياً، إنما، حسب الولاية الفقهية، تمهيد لدولة العدل والقسط!
هنا تأتي خطورة تولي رجل الدِّين منصباً سياسياً، أو تُتأمر بأمره ميليشيا، يُحرم ويُحلل حسب المصلحة، فهو مع الثَّورة، لا يصفها بالفتنة، إذا كانت بمصلحة حزبه، ويراها فتنة خداعة إذا مست حظوته مِن السُّلطة. كان يُحرض النَّاس على الثَّورة والانفلات، ويدفعهم إلى حمل السِّلاح، دفاعاً عن حقوقهم المهضومة، بينما عندما انعكست الآية صار يدعو إلى الصَّبر، ويُحذر ممَن سيأتي خلفاً له، على أنه الشَّرَّ بعينه. تراه يخاطب الناس مِن منبر الهيمنة باسم الدِّين: «أخطر الخطر، كثير مِن النَّاس يقولون: نحن ما ماخذين حقوقنا ميخالف(لا يُخالف) ما ماخذين حقوقكم، لكن أليجي(الذي يأتي) راح يرجع لكم حقوقكم؟!». فهل سأل هذا الخطيب نفسه عندما انتسب إلى حزب إسلامي ثوري، هل سيعطي النَّاس الحقوق، وها هو قد تسلم السُّلطة، وأخذ يقلب النَّص مِن الثَّورة إلى المهادنة.
معلوم أن الأئمة بعد الحُسين(قُتل61هـ) تبنوا نشاطاً فقهياً بعيداً عن السَّياسة، وانحصرت الثَّورة عند الإسماعيلية والزَّيدية، أما مَن يريد جعل لهم حراكاً سياسياً، فهو لا يريد غير تبرير إسلامه الحزبي، والأئمة ومراجع الدِّين الأوائل والأواخر في قضية الدخول في السياسية الثَّورية، أقرب إلى فقهاء السُّنَّة في الموقف مِن الثَّورات، وأغلب الظَّن أن نتائج الثَّورات كانت كارثية على الدِّين والمجتمع، فالثُّوار أنفسهم، حلوا محل الحاكم، وزادوا فساداً على فساده، وأيضاً يحصل ما سماها صاحبنا بـ«الفراغات السِّياسية». لهذا اتخذوا موقفاً منها، وهو إذا كان الأمر بين مفسدتين، مفسدة الحُكم ومفسدة الفوضى، فيُصبر على الحاكم.
إضافة إلى كلمة عليّ بن أبي طالب، التي تُفسر أنها ليست مع الثَّورة، لأنها قيلت ضد مَن ثاروا عليه، ورد في التقليد الإمامي عن جعفر الصَّادق(ت148هـ): «من تعرض لسلطان جائر فأصابته بلية لم يؤجر عليها ولم يرزق الصَّبر عليها»(الطُّوسي، تهذيب الأحكام). كذلك ورد في شأن الثَّورة وعدم جوازها في غيبة المهدي: «كلُّ رايةٍ تُرفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت، يُعبد مِن دون الله عزَّ وجل»(الكُليني، الفروع مِن الكافي).
في شأن الموقف من الحكم ظهر حرص أئمة السُّنة على البقاء على الحاكم، مهما كانت أحواله، وأغلب الظن أيضاً، أنها أول ما وردت مدونة في كتاب قاضي القضاة أبي يوسف الأنصاري(ت182هـ): «إنما الإمام جُنَّة يُقاتل من ورائه ويُتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجراً، وإن أتى بغيره فعليه إثمه«(كتاب الخراج). أجد صاحب المنبر، الذي استنجد بعليٍّ بن أبي طالب، بعد أن صارت التظاهرات ليست لصالحه، اتفق مع خطاب ابن تيمية(ت728هـ) في شأن محاربة الإمام الجائر في الفتنة: «لهذا أمر النبي(ص) بالصَّبر على جور الأئمة، ونهى عن قتالهم، ما أقاموا الصَّلاة. وقال: أدوا حقوقهم، وسلوا الله حقوقكم»(الفتاوى الكبرى).
تأثراً بما ورد لجميل صدقي الزَّهاوي(ت1936) في هذا الشأن، قالها دفاعاً عن السلطان العثماني ضد الدَّعوة الوهابية:«مَنْ كان يؤمن بالنَّبي محمدٍ/وبما أتى من منزل القرآن/علـم اليقين بأنه في دينه/وجبت عليه طاعة السُّلطان»(عزَّ الدِّين، الشعر العراقي الحديث).
لسنا بصدد الوقوف مع أو ضد الثَّورات والسُّلطات، بقدر ما نلفت النَّظر إلى التَّلاعب بالدِّين، حسب الموقف الحزبي، فالمطالبة بالحقوق، لدى عمائم الإسلام السِّياسي وأفنديته: فتنة قاتلة هدامة إذا كانت ضدهم، وثورة شريفة منقذة إذا صارت لصالحهم! لهذا ندعو إلى عتق الدِّين مِن السِّياسة.
*كاتب عراقي