مقالات

الثقافة العربية وخطر الظلامية

 


نمر بمرحلة قاسية يعاني منها المجتمع العربي بأقطاره المتعددة، فتلك المرحلة تطبع المجتمع المذكور بحالة من الاضطراب والتغير العشوائي، الذي قد يهدد بأحداث خطيرة لن تكون نتائجها سهلة وقابلة للتغير القائم على الديمقراطية والعقلانية والحداثة. وثمة وجه آخر للمسألة يتمثل في إمكانية تحقيق ذلك التغيير سلباً. أما هذا الأخير فيُخشى أن يتجه نحو مزيد من التدخل الخارجي في المجتمع. ولعل ما يحدث يمثل اقتراباً مما حدث في القرن التاسع عشر بتدخلات الغرب فيه ونشوء ظاهرة الاحتلال والقضم له. وقد نقول إن هذا الذي يأخذ مجراه في العالم العربي الراهن يمثل انهياراً ليس من السهل رأب صدعه. إذ لم تتحقق عملية الاستقلال، التي بُدئ بها منذ عشرات السنين في العالم إياه. ومن ثم لم يتحقق الاستقلال الوطني الناجز ولا الوحدة القومية، إضافة إلى الإصلاح الاقتصادي والسياسي والتربوي العميق، ما وقف عثرة في وجه مهمات أخرى كبرى، ومنها الديمقراطية والحداثة والعدالة. وقد عمل ذلك على التمكين لتأثيرات جديدة خطيرة في العالم العربي، مع التحولات الكبرى التي عصفت بالعالم الغربي، ومنها سقوط العالم الاشتراكي وظهور النظام العولمي الكوني.


ذلك كله أفضى إلى نتيجتين اثنتين على صعيدين اثنين، العالم العربي بتوقف مشاريعه التحديثية وبتخريب معظم ما حققه حتى حينه، وتعاظم قيادات الفساد والإفساد في حقول شتى، وذلك على نحو انتهى إلى نشوء «الدولة الأمنية» التي تسعى إلى إفساد من لم يتم إفساده حتى حينه، هذا بالإضافة إلى نشوء الطائفية والتقسيمية على صعيد دول عربية، وعقد صفقات زمنية مديدة يُسمح فيها للأجنبي أو للأجانب أن يبتلعوا ثروات العالم العربي، مع تقسيمه وخلق محاور اقتصادية وسياسية جديدة فيه، ذلك كله ومجتمعياً أحدث خروقات في البِنى المجتمعية الطائفية، تركت آثاراً عديدة فيها.


لقد ظلت آثار عميقة ومحفورة في البنية العقلية للإنسان العربي يعيش تحت وطأتها وثقلها، بما تنطوي عليه من الذاكرة التاريخية والمرحلة المعاصرة، التي يعيش ثقلها، إضافة إلى ثقل الحاضر، الذي يجسد مرجعية من الظلامية المنحدرة من الواقع التاريخي، الذي يعيش لا معقوليتها وظلاميتها وثقلها على الشعوب العربية الخاضعة – في الوقت نفسه – تحت رقابة الوعي والمخبال الظلاميتين المحفورتين في ذاكرة تلك الشعوب أو القسم الأكبر منها، كما في وعيها الذي تسهم فيها الفئات الظلامية من مجموع مكونات تلك الشعوب، خصوصاً وأن الأصولية الظلامية تحفر بعمق في ذلك الوعي.


ونتحدث الآن عن أكثرية فاعلة من سكان العالم العربي، تغوص في عمق الظلاميات التي تُعايشنا وتخترق بنياتنا الفكرية، لتحول دون الاندماج في عالم العصر الحديث، بما حدث فيه من تحولات وثورات ثقافية وعصرية مرتبطة بمسائل حيوية من الفكر العالمي المعاصر، ونخص من ذلك من مسألة الثقافة نفسها والحرية والعدالة اللتين تعيشان في عالم متحول ومفتوح، كما في بنية فكرية تُغرقه في الظلامية، التي تجسد – في مرحلتنا – حالة هائلة من الحضور والتأثير في حياتنا. فلقد راحت منظوماتنا الثقافية والسياسية والتربوية خصوصاً تمر في حالة عميقة من التأثر بالظاهرات التي اخترقت تلك المنظومات اختراقاً عميقاً جعل منها ظاهرات موجودة بقدر ما، وتستجيب للتطورات عالمياً، كما بقدر ما تُمرغ في مشاكل العصر والعالم العربي على حد مخصص.


فلقد انخرطت «الثقافة» في حقل مخترق من الوظائف والمهمات المنوطة بثقافة العصر وما يعيش في باطنه، لقد ظهرت فكرة «الاستثمار» العميق والشامل للثقافة، يداً بيد مع حاجة المجتمعات العالمية المعاصرة. وظهر ذلك معمقاً ومكثفاً مع مفهوم «التنمية» التي يقوم بها الإنسان. وقد ظهر ذلك بالتوافق مع تحول الثقافة – على الحد الأدنى – إلى طاقة تغييرية فاعلة، يمكن أن تحدث ثورة جديدة في العالم، مثلها كمثل النظريات العلمية الجديدة، ومنها نظرية التقدم والحرية والتغيير بأدق الأدوات المتطورة.


*أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق


 


 

زر الذهاب إلى الأعلى