مقالات

العلمانية والإسلاموية.. حرب الشعارات الزائفة

 


“العلمانية هي الحل”، شعار سخيف ومُخادِع؛ بالضبط كشعار “الإسلام هو الحل”. العلمانية هي انعكاس طبيعي للتطور التاريخي والإنساني للشعوب، كما هي تعبير عن إرادة مجتمعية عامة. ودون ذلك يصبح تطبيقها مُستحِيلاً.


لا يمكن أن تقوم العلمانية إلاَّ ضمن سياق تراكم وتطور تاريخي وإنساني للشعوب. يعني، لا يمكن اليوم تطبيق العلمانية في اليمن، أو بقية الدول العربية، عبر إصدار قرارات رسمية تقضي بذلك، أو عبر دعوات حسنة النوايا من الناشطين الجادين أو خفيفي العقول. يعني، لا يمكننا استيراد العلمانية من الغرب كما نستورد السلع.


العلمانية موقفاً قيمياً وأخلاقياً يعكس مدى تطور وتقدُّم المجتمعات. يعني، لا يمكننا أن نقفز إلى العلمانية قفزاً، في ظل مجتمعات بائسة غارقة في الخرافات واللاهوت. العلمانية وليدة سياق وإرث غربي مختلف تماماً عن سياقنا الحالي وإرثنا التاريخي. يُمكننا أن نصل إلى العلمانية إلا عبر طريق واحد فقط لا غير: تطور مجتمعي حقيقي وجاد.


العلمانية توجد/ تَحدُث/ تتشكّل/ تتخلَّق في مرحلة ما من التاريخ ضمن مسيرة التطور التاريخي للشعوب، وليس اقتحاماً لها. لا أحد يستطيع أن يجعل هذا الشعب أو ذاك يؤمن بقيم العلمانية بقرار شخصي يتم اتخاذه في غفلة من التاريخ. لا أحد بإمكانه أن يحرق المراحل في حياة الشعوب كي يدفعها إلى عيش حياة لم تقتنع بها، وتبنِّي قيم لم تصل بعد إلى الإيمان بها والدفاع عنها.


والحل؟


الحل في تحديث التعليم، بما يدفع الشعوب نفسها إلى تبنِّي قيم التحديث، وبالتالي العلمانية، ويجعل الصراع صراعاً اجتماعياً لا دينياً، صراعاً على مصالح اجتماعية وسياسية، وليس صراعاً على تمثيل الله في الأرض.


نحن نعيش في زمن لم تعشه أوروبا حتى قبل ألف سنة من اليوم. مازلنا مرتهنين لفكرة “الولاية”، والصراع بين “علي” و”معاوية”.. مازال هناك من يظن أنه أحق بحكم الناس اعتماداً على وعي عُنصري سُلالي، ومازال هناك من يدعمه، ويُقَاتِل من أجل في هذه الدعوات غير المعقولة! ومازال هناك من يقول للناس أن ليس من حقهم التظاهر للمطالبة بتوفير خدمات الكهرباء والماء لأنهم لم يسبق لهم أن خرجوا لمناصرة “آل البيت” ضد “أبو بكر” و”عمر” أو ضد “أبو جعفر المنصور”!


لا يمكننا التخلص من هذه الأمراض إلاّ بتغيير الوعي المجتمعي عبر تحديث التعليم. وعندما يصبح الصراع صراعاً على مصالح اجتماعية وسياسية، وصراعاً حول دولة القانون والمواطنة المتساوية، وخلافاً حول حيثيات وشروط المواطنة المتساوية، لن نكون في حاجة للحديث عن العلمانية، وخوض نقاشات عقيمة حول ذلك.


سيرة حياة “جوزيف”، إمبراطور إمبراطورية الهابسبيرج، ابن الإمبراطورة ماريا تيريزا، خير مثال للاسترشاد بها في هذا الموضوع (يُمكن قراءة ذلك في “قصة الحضارة”). “جوزيف”، الذي جعل فلاسفة أوروبا، على رأسهم فولتير، وحكام أوروبا على رأسهم فريدريك الأكبر، يضعون أكفهم على قلوبهم وهم يتابعون ما يفعل، في مواجهته للكنيسة والنبلاء، بسبب القوانين التي أصدرها ضد الكنيسة، وتلك التي أصدرها لصالح الفلاحين ضد النبلاء، وتلك التي أكدت الحقوق والحريات والمساواة، وضمنت حقوق معتنقي المذاهب الدينية.. ووو.. “جوزيف” الذي تمرَّد عليه الفلاحون لأنه أصدر قوانين في صالحهم ضد النبلاء. “جوزيف” الذي أُجبِر، بعد ثورات فلاحية عليه وانفصال التشيك و”الأراضي الواطئة عن إمبراطوريته، على إلغاء جميع القوانين التقدمية التي أصدرها، والتي وصلت إليها أوروبا، تالياً، بعد أكثر من مائة عام على وفاته. “جوزيف” الذي أوصى بأن يتم الكتابة على قبره أنه فشل في تحقيق ما أراد. “جوزيف” الذي قِيل إنه حَقَّق في عشر سنوات ما يحتاج إلى مائة عام لتحقيقه.


بالنسبة لليمن في الوقت الراهن، فالنقاش حول العلمانية ترف وحالة من الإلهاء. اليمن بحاجة، أولاً لاستعادة الدولة، وبعدها يُمكن الحديث عن شكل الدولة والمواطنة، والعقد الاجتماعي، وعلاقة المواطن بالسلطات الرسمية، ومبادئ الحقوق والحريات، وووو، ثم يأتي الحديث عما إذا كان الدين مُتّصِلاً بضمير الفرد، وليس أداءه للتحشيد وتشكيل الرأي العام.


 


استدراك:


هذا لا يعني أني ضد حق الناس في نقاش ما يريدون، بل ضد استنزاف الطاقات الحماسية العامة في قضايا لم يحن الوقت بعد لإهدار الوقت من أجلها، أو التضحية في سبيلها.


 


 

زر الذهاب إلى الأعلى