ما لم يدركه قرداحي أن اللعبة أكبر منه
حين تحدث جورج قرداحي عن سيادة لبنان كان كمَن يرتّب أوراقا مدرسية. فالرجل تسحره الجمل الجاهزة التي كان سواه يكتبها له. علينا أن لا ننسى أنه قضى ربع قرن وهو يقرأ ما يكتبه الآخرون.
كان جورج قرداحي سيء الحظ حين انتقل من مقدم برامج تسلية إلى وزير إعلام في دولة تهيمن عليها ميليشيا تقتل كل مَن يفكر في توجيه نقد لها. لا تزال ذكرى المفكر والناشط السياسي لقمان سليم حية.
ليس صائبا الدفاع عن حرية التعبير حين معالجة مسألة قرداحي. وهي مسألة ساذجة. أكثر سذاجة مما نتوقع. قرداحي نفسه لم يكن يتوقع أنه سيكون جزءا من لعبة شد الحبل السياسية.
كان على قرداحي أن يرضى بقدره من غير أن ينزلق إلى لعبة الابتزاز. فالمزاح انتهى. أما حين يدخل المرء رأسه في جحر الأفاعي الحوثية فعليه أن لا يتوقع أن يستعيد رأسه سالما
اعتبره الكثيرون نصابا. ناكر جميل. الصبي العاق. غير أنني لا أعتقد أنه في تصريحاته الأولى كان يخطط لشيء ما. فالرجل يملك جملا جاهزة. جملا يُرضي من خلالها الجمهور الذي يجب أن يُعجب به.
لو أن قرداحي كان يعرف يوم أجري له لقاء مع الجزيرة أنه سيكون وزيرا في حكومة ميقاتي لما قال ما قاله. كان قرداحي يومها قد أُبعد من القناة السعودية فقرر أن يرد بطريقة مَن يرتدي قناعا.
اليوم يبدو قرداحي أشبه بدمية. دور ليس غريبا عليه. كان في عمله القديم يُلَقن الأسئلة من غير أن يعرف الأجوبة. دمية المليون ريال سعودي لا أظنها فكرت يوما ما أن تكون دمية لمليون تومان هي من أملاك حزب الله.
ربما كان حزب الله قد وقف وراء توزيره. لقد وهبوه منصبا وهميا بعد أن فقد منصبه الواقعي في فضاء المسابقات. كانت تلك مكافأة مجزية لمواقفه السابقة. وهي مواقف لا تتطلب كثيرا من الشجاعة والجرأة. ما قاله عن الحرب السورية إنما يمثل وجهة نظر تبناها الكثيرون من غير أن يتعرضوا للمقاطعة أو التوبيخ أو اللوم إلا من قبل رهط قليل من المعارضين السوريين الذين لم تعد أصواتهم تصل إلى أي مكان.
وعلى العموم فإن وزراء المحاصصة الطائفية ليسوا بأفضل حال من قرداحي. ربما كان قرداحي هو الأفضل من سواه من أبناء الطوائف المدلّلين الذين قادوا لبنان بفسادهم إلى الانهيار الشامل.
النموذج الذي قدمه قرداحي أساء كثيرا إلى الشخصية اللبنانية، بحيث صار البعض يردّد “هذا هو السلوك النفعي الذي يجب أن نتوقعه من اللبناني”. ذلك ليس صحيحا أيها السادة. اللبناني ليس كذلك. لبنان علمنا الكثير من القيم الأخلاقية الرفيعة والنبيلة.
لو لم يرتكب ميقاتي خطأ توزيره لما التفت أحد إلى ما قاله قرداحي وبالأخص لأن تصريحاته جاءت من خلال قناة الجزيرة القطرية.
كان يومها مجرد مذيع سابق.
مَن يتذكر لونا الشبل التي عينها الرئيس بشار الأسد مستشارة له؟
المذيع التلفزيوني يعاني كثيرا إن انسحبت الأضواء عنه. قرداحي ليس استثناء في ذلك. حين ذهب إلى الجزيرة وهي نقيض القناة التي كان قد عمل فيها لربع قرن كان يسعى إلى استعادة الأضواء السابقة عن طريق الابتزاز. غير أنه لم يكن محظوظا حين جرى توزيره فذهبت جهوده سدى.
في ذلك المجال يمكن اعتبار قرداحي ظاهرة مرضية.
لذلك ليس المطلوب استقالة قرداحي أو إقالته. لم يكن ذلك ليعني شيئا في حينه. الآن تأخر أي إجراء يمكن أن تتخذه الحكومة اللبنانية. لقد تُرك الرجل المريض وهو يتخبط بين تصريحات مزجت بين الوطني الزائف والشخصي المريب.
ليس صائبا الدفاع عن حرية التعبير حين معالجة مسألة قرداحي. وهي مسألة ساذجة. أكثر سذاجة مما نتوقع. قرداحي نفسه لم يكن يتوقع أنه سيكون جزءا من لعبة شد الحبل السياسية
الخطأ في النظام السياسي اللبناني كله. فنظام يقوده حزب الله التابع للحرس الثوري الإيراني لا يمكن سوى أن يسعى إلى قطع الخيوط مع المحيط العربي. اللعبة هي أكبر من قرداحي وأهدافه المتواضعة. ذلك لم يدركه النجم التلفزيوني وهو يتحدث عن السيادة الوطنية كما لو كان لبنان دولة ذات سيادة فعلا. أما كرامة لبنان فقد مسح بها السياسيون اللبنانيون الأرض حين صارت عين اللبناني تراقب بورصة أسعار ربطة الخبز.
لقد رأى الوزير الذي سيُطرد لاحقا نفسه في مرآة سواه. ذلك خطأ لا يمكن أن يرتكبه أي مذيع تلفزيوني سابق. لسنوات كانت عيون الآخرين تقول أشياء تدعو إلى الغرور والتعالي غير أن ذلك سيكون جزءا من الماضي ما أن يُسدل الستار نهائيا.
كان على قرداحي أن يرضى بقدره من غير أن ينزلق إلى لعبة الابتزاز. فالمزاح انتهى. أما حين يدخل المرء رأسه في جحر الأفاعي الحوثية فعليه أن لا يتوقع أن يستعيد رأسه سالما.
اللعبة أكبر منك يا قرداحي ولم تكن محظوظا هذه المرة.