ما يقوله الحوثي وما يفعله!

يبدو للوهلة الأولى لمن لا يعرف تفاصيل الحرب التي تشهدها اليمن وخلفياتها منذ سبع سنوات تقريبا، أن هذه البلاد التي أنهكتها الصراعات باتت في آخر فصول معاناتها، مع لمعان البريق الكاذب الذي يبرز من تصريحات كثير من المسؤولين الدوليين والأمميين الذين لم ينفكوا يتحدثون عن ضرورة إحلال السلام وإنهاء الحرب. 

ومع كل حديث أو حراك دولي لحلحة الأزمة اليمنية وإخراجها من دائرة العتمة، يزداد الملف اليمني تعقيدا، وتتعاظم لاءات الحوثي الرافضة للسلام واللاهثة نحو فرض سياسة أمر واقع على اليمنيين وعلى الإقليم والمجتمع الدولي. 

وخلال الأيام القليلة الماضية تجدد المشهد مرة أخرى، مع بدء نائب وزير الخارجية الأميركي ومبعوث واشنطن الخاص إلى اليمن جولة جديدة لحلحلة الملفات العالقة ودفع عجلة المبادرتين الأممية والسعودية العالقتين في وحل التصلب الحوثي الذي تزامن مع تصعيد جديد للميليشيات المدعومة من إيران التي وقّتت هجماتها كما هو الحال في مرات سابقة على وقع التحركات الدولية. 

كثف الحوثيون هجماتهم على الأراضي السعودية باستخدام الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية في حركة استعراضية للقوة لا تحقق في الغالب أيّ نتائج عسكرية، حيث يتم اعتراضها وإسقاطها وإدانتها دوليا، لكن الجديد هذه المرة تمثل في نوعية التصعيد الحوثي الداخلي الذي استهدف مناطق جنوبية بينها مناطق تم طرد الحوثيين منها قبل أعوام مثل منطقة “بيحان” في محافظة شبوة التي يتهيأ الحوثي لمهاجمتها مجددا، إلى جانب مناطق أخرى تمثل عمقا تاريخيا واستراتيجيا للجنوب مثل مناطق “يافع” في محافظة لحج التي توصف بأنها أحد المخازن البشرية الهائلة التي شاركت في إحباط المخططات الحوثية لغزو الجنوب في العام 2015. 

وعلى الرغم من أن الأهداف الاستراتيجية الحوثية التي تقف خلف فتح جبهات جديدة باتجاه جنوب اليمن لم تتضح بعد، إلا أنه من المؤكد ومن واقع قراءة متأنية للسلوك العسكري الحوثي، يبدأ الأمر ككبسولة اختبار، فإذا وجد الحوثيون الطريق سالكا نحو الجنوب، كما كان الحال في العام 2015، لن يترددوا في بسط سيطرتهم على جغرافية اليمن الجيوسياسية كاملة، متجاهلين كل المحاذير الثقافية والسياسية وحتى الإقليمية والدولية، وهو ما حدث في العام 2015 عندما تجاهلوا تحذيرات السعودية واجتاحوا مدينة عدن، قبل أن تردهم المقاومة الشعبية المدعومة من التحالف العربي على أعقابهم. 

وعلى افتراض أن الحوثيين ما زالوا يعون درس هزيمتهم في جنوب اليمن وهو أمر غير مؤكد، فالأرجح أن هدفهم من هذا التصعيد العسكري في هذه المرة يتمثل في خلط الأوراق وتوسيع دائرة التوتر السياسي والعسكري، بهدف التفاوض في نهاية المطاف على منحهم الحق في بسط سيطرتهم على شمال اليمن ما قبل 1990، إضافة إلى رغبتهم الواضحة في تحييد مناطق الجنوب من صراعهم مع الشرعية في آخر المناطق التي تتواجد فيها بشمال اليمن وتحديدا مأرب وما تبقى من البيضاء وأجزاء من تعز. 

ووفقا لهذا التفسير، يحشد الحوثي كل قدراته السياسية والعسكرية خلال هذه الفترة لدفع الجنوبيين والتحالف العربي على حدّ سواء للاعتراف به كقوة أمر واقع مسيطرة على شمال اليمن، مع الإيحاء بأنه مستعد في مقابل ذلك لوقف هجماته على الأراضي السعودية إذا أوقفت عملياتها الجوية في مأرب وتجميد أيّ مشروع عسكري له نحو الجنوب في حال حيدت القوى الجنوبية مناطقها من الصراع الدائر بين الشرعية والحوثي. 

وبقدر ما تبدو تلك المعادلة مغرية، لكنها في الحقيقة، ومن واقع تجارب سابقة، مجافية لنوايا الحوثيين التوسعية والتي كشف عنها اندفاعهم الطائش نحو جنوب اليمن في 2015 بعد أن كانوا يتبنون طوال سنوات موقفا سياسيا وإعلاميا تجاه “القضية الجنوبية” يتجاوز في سقفه حتى مطالب الحراك الجنوبي المطالب بفك الارتباط، لكنهم وقعوا في أول امتحان حقيقي بعد ذلك بفترة وجيزة وسحقوا مواقفهم الكلامية التي تبنوها من الجنوب في مؤتمر الحوار الوطني الشامل ليشنوا حربا على الجنوب تفوق في همجيتها حرب صيف 1994 ذاتها، بل وحروب صعدة مجتمعة. 

ومن واقع سلسلة طويلة من التجارب والتناقضات الهائلة بين ما يعلنه الحوثيون وما يفعلونه، لا يمكن باعتقادي الوثوق بتصريحات الحوثيين لا عن شروط السلام ولا أهداف الحرب وحدودها، فلسان الحوثي المعسول أشبه ما يكون بلسان مستعار لا يرتبط بحقيقة النوايا الحوثية أو عقلها الأيديولوجي أو طريقة تفكير الجماعة العقائدية والسياسية التي مارست أبشع الانتهاكات في اليمن، بعد أن ظلت لسنوات ترفع راية “المظلومية” و اجتاحت صنعاء ونفذت أعنف انقلاب وهي التي زعمت أنها جاءت لتنفيذ مخرجات مؤتمر الحوار، وجوعت اليمنيين وجرّعتهم مرارة الحرمان بعد أن ادعت أنها تطالب بمحاربة الفساد خاصة ما تعلق منها بالمشتقات النفطية، التي أنشأت لها فيما بعد أسواقا سوداء شديدة الحلكة كما هو حال اليمن اليوم. 

Exit mobile version