رسالة أميركية أخرى خاطئة

أعادت مشاهد خروج القوات الأميركية من أفغانستان إلى الأذهان صور الانسحاب من فيتنام وما رافقه من فوضى سياسية وإعلامية اعتبرت حينها انتكاسة لصورة الولايات المتحدة التي لا تقهر، غير أن النسخة الحديثة من الانسحاب الأميركي الكبير والمفاجئ من أفغانستان حملت في طياتها العديد من الدلالات والرسائل التي تعزز من فرضيات رافقت وصول الرئيس الأميركي جو بايدن إلى البيت الأبيض باعتباره استكمالا لمشروع بدأته إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما في ما يتعلق بتمكين جماعات الإسلام السياسي ثوريا وديمقراطيا. 

ومع تعثر مشروع إيصال الراديكالية العربية إلى سدة الحكم عن طريق وسائل ثورية وانتخابية، بدأت كما يبدو ملامح المرحلة الثانية من الخطة التي تقضي بتمكين تلك الجماعات بشكل مباشر وفي حالة فوضوية عارمة كتلك التي شهدناها في أفغانستان خلال الأيام الماضية. 

ويمكن تصنيف الخطوة التي أقدمت عليها واشنطن في أفغانستان بأنها الرسالة الثانية الخاطئة على التوالي التي تبعث بها إدارة بايدن بعد الرسالة التي سبقتها من خلال إقدامها على شطب اسم الجماعة الحوثية من قائمة التنظيمات الإرهابية، وهو الأمر الذي ظن العديد من الخبراء والمحللين أنها هفوة غير مقصودة. 

ولأن الرسائل من هذا النوع مسموعة للغاية ويتردد صداها سريعا، فقد تلقف الحوثيون كذلك الرسالة الثانية لواشنطن، حيث سارع ناطقهم الرسمي وكبير مفاوضيهم للإدلاء بتصريح على وقع الانهيار في أفغانستان واجتياح طالبان للعاصمة كابول، عبّر فيه عن رفض الحوثيين لقاء المبعوث الأممي الجديد إلى اليمن، قبل انصياع المجتمع الدولي لقائمة الاشتراطات الحوثية الجديدة، التي تعد في حال الموافقة عليها، اعترافا ضمنيا بهم كميليشيات أمر واقع مسيطرة على السلطة، كما هو حال حركة طالبان تماما والتي بعثت من خلال سيطرتها الدراماتيكية على الدولة الأفغانية برسالة صادمة للعالم، مفادها أن العالم يعيش في زمن الميليشيات ومنطق القوة وليس زمن القانون الدولي والدساتير والأمم المتحدة ومجلس الأمن. 

وفي ظل هذه الحالة العبثية والإخفاق الكبير الذي أبداه المجتمع الدولي في التعامل مع الأزمة الأفغانية، تتحضر واشنطن كما يلوح في أفق التحولات الدولية المتسارعة، لإرسال ثالث رسائلها عن زمن الأيديولوجيات الإسلامية المتطرفة بشقيها السني والشيعي، من خلال تزايد المؤشرات على احتمال انحنائها أمام تعنت النظام الإيراني ومنحه المشروعية والاعتراف الدولي لإكمال مشروعه في تصدير الثورات الإسلامية والحروب والميليشيات والطائرات المسيرة في الشرق الأوسط. 

ويبدو أن تدليل العالم لميليشيا الحوثي والتعامل معها كأمر واقع بعد اجتياحها العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014 في صورة تشبه كثيرا صور اجتياح العاصمة الأفغانية كابول من قبل حركة طالبان، سيضخ الدماء في عروق حركات وجماعات متطرفة أخرى تستمد قوتها من ضعف إرادة المجتمع الدولي وتعدد حساباته ونفاقه السياسي. 

ومع تحول العالم إلى قرية صغيرة كما يقال، ربما نشهد في الأيام القادمة انفتاحا غير مسبوق لشهية الجماعة الحوثية في صنعاء، بعد أن تلذذ قادتها بصور الضعف الذي أبداه العالم في أفغانستان بعد عقدين من التدخل الغربي فيها والذي بدأ دون حجج كافية وانتهى دون ترتيب أو منطق سياسي أو عسكري يمكن تفسيره. 

Exit mobile version