هل يجر بن سلمان الشرق الأوسط لسباق نحو الحداثة؟
في يناير 1979م دشن اية الله الخميني سباق التطرف في منطقة الشرق الأوسط عقب سيطرته على مقاليد السلطة في إيران واعلانه عن قيام جمهورية اسلامية، وسرعان ما وصل ذلك المد للمملكة العربية السعودية وتجسد في حركة جهيمان العتيبي، ومن ثم دخلت السلطات السعودية ومؤسستها الدينية الرسمية بنفسها في ذلك السباق خوفاً من أن تظهر كمتخاذلة تجاه الإسلام وهي التي تشرف على مكة المكرمة والمدينة المنورة أقدس الأماكن الاسلامية.
وكردة فعل على تصدير نظام الخميني للثورة الإسلامية وفقاً للنمط الشيعي دخلت السعودية وإيران في معركة على نشر رؤية كل منهم للإسلام المحافظ “المتطرف” في بقية الأقطار كنوع من السيطرة وكسب الولاء والحد من انتشار الطرف الآخر، وبذلك دخل الشرق الأوسط بأكمله في نفق مظلم وسباق الى الماضي، فأُغلقت السينمات والمسارح في مدن المملكة ومُنع الغناء في كل وسائل الاعلام وغاب صوت أم كلثوم الذي كان يشدوا في الإذاعات الرسمية والتلفزيون السعودي وظهرت الشرطة الدينية وكل مظاهر التشدد التي عرفناها خلال العقود الماضية.
وكان الأخطر في ذلك السيناريو هو استعانة السعودية بمدرسين ورجال دين مصريين من المحسوبين على حركة الإخوان المسلمين وتمكينهم من مؤسسات التعليم الحكومية وكذلك المساجد ومنابر الدعوة والخطابة المختلفة والاعلام الديني، ذلك الفكر الإخواني هو نفسه الذي تأثر به الخميني وصاغ على أساسه فكرة “ولاية الفقيه” والتي تعد المعادل الموضوعي “وفقاً للنمط الشيعي” لفكرة “الحاكمية” السنية عند سيد قطب المؤصل الأهم للفكر الإخواني.
***
انتجت موجة التطرف تلك الكثير من المشكلات داخل المجتمعات من حصار للإبداع وقمع للحريات وتراجع في الوعي واعاقة لكل مظاهر الحداثة والتطور وصولاً الى ظاهرة الإرهاب الذي جسده تنظيم القاعدة كأشهر من احتكر ذلك الوصف، وطالت عملياته الكثير من البلدان ومنها السعودية، وأصبحت المملكة عاجزة عن مكافحة تلك الآفة حتى مع التعامل الأمني الصارم، فحاضنات تفريخ التطرف في مختلف المرافق الدينية في المملكة كانت أقوى وأكثر إنتاجية من كل الإجراءات الحكومية، ما أدى لتشوه صورة السعودية في العالم بسبب العدد الهائل من المتطرفين الحاملين لجنسيتها وبالأخص من المنفذين للهجوم على مركز التجارة العالمي بواشنطن إضافة الى من ذهبوا للقتال في سوريا والعراق والشيشان وغيرها من البلدان تحت راية القاعدة وبقية المجموعات المتطرفة.
تحولت قضية تصدير المملكة للفكر المتشدد وللمتطرفين الى مأخذ خطر عليها وعلى نظامها في مختلف البلدان والمحافل الدولية وصولاً الى اصدار الولايات المتحدة قانون جاستا الذي استهدف السعودية بشكل مباشر، إضافة الى خطر داخلي تمثل في توسع سيطرة ذلك الفكر المتطرف وتأثيره المتزايد على عقول الكثير من الشباب وعجز وزارة الداخلية وكل الأجهزة الأمنية والمخابراتية عن السيطرة على تلك الظاهرة التي طال ارهابها حتى الأماكن المقدسة داخل المملكة.
***
دفعت المملكة ثمن هائل لذلك التطرف والغلو، على مستوى سمعتها، وكان مسؤولوها يتعرضون لإحراج شديد في المؤتمرات الصحفية في الدول التي يزورونها عندما يتم سؤالهم مثلاً: لماذا لا تسمحون للمرأة بقيادة السيارة؟ او لماذا لا تسمحون بوجود دار سينما أو مسرح أو أبرا؟، وتلك المظاهر كانت تحجب مجمل ما قدمه النظام السعودي من انجازات لمواطنيه، فلكونه لا يسمح للمرأة بقيادة السيارات مثلاً يعد نظاماً رجعياً جداً بمقاييس تلك الدول الغربية مهما بنى من ناطحات سحاب ومصانع ورفع من مستوى دخل الفرد.
وكان لا بد من وقفه جادة وحاسمة مع تلك المشكلة، بعد طول انتظار داخل وخارج السعودية، وتضاعفت الحاجة الى إصلاحات جادة تعيد المملكة الى الإسلام المعتدل والوسطي الذي كان سائداً ما قبل عام 1979م، فقد دب اليأس من الإصلاحات طويلة المدى والتي كانت تضيع أمام تغول الفكر المتشدد داخل المؤسسة الدينية والتي بدورها كان لها يد طولى في جهاز الدولة الإداري يعرقل مسيرة التحديث التي هددت مصالح الكثير من الذين يقتاتون من بيع الدين والتشدد ولا يجدون وظائف غير ذلك وليس لديهم مؤهلات الا كحماة للعقيدة ومدافعين عنها حتى في قلوب الناس.
***
كان هناك رهبة لدى رجال السلطة والحكم في المملكة من مقاربة تلك المشكلة بقوة وحزم، فالتيار الديني قوي ومنصاته عديدة وواسعة وبالأخص بعد ظهور مواقع التواصل الاجتماعي والتي جعلت بعض دعاة الغلو نجوماً وصل عدد متابعيهم لعشرات الملايين، ما أضاف مخاوف لدى صناع القرار من كبح جماح ذلك التطرف، ومن بين كل تلك المخاوف وعوامل اليأس ظهر الأمير محمد بن سلمان معلناً وقفة جادة ضد تلك الآفة، وقفة مبنية على دراسات وخطط شاملة، لم تقتصر على البعد الأمني فقط كما كان يتم التعامل معها سابقاً، انما جعل من المعركة مع تلك الآفة مشروع تحديثي متكامل للمملكة، على مختلف المستويات، اقتصادية واجتماعية وثقافية وفنية وعلمية ومعرفية وبنية تحتية، إضافة الى وضوح الرؤية والاعتراف بأخطاء الماضي وتحديد من أين ومتى بدأت المشكلة وكيف يمكن تجاوزها.
لم يكن من السهل على أي أمير سعودي خوض هذه المعركة وبهذا الوضوح والشفافية التي ظهر فيه الأمير محمد، فما كان يسمى بـ “الصحوة الإسلامية” لعقود ويعد مصطلحاً مقدساً، تحدث عنه الأمير الشاب بأنه بداية عهد الظلام والتخلف في المملكة ابتداءً من العام 1979م، ولم يكن من السهل على أمير سعودي السماح للمرأة بقيادة السيارة ولا إعادة فتح دور السينما والمسارح واستقدام فرق غنائية ومسرحية في وجود جمهور من النساء، ولم يكن من السهل على أمير سعودي الحديث عن أنه سيدمر ذلك التطرف الدخيل على مجتمعه تحت مسمى “الصحوة الإسلامية”، ولأول مرة يُحمِل الثورة الإيرانية والفكر الإخواني مسؤولية ما حل بالمملكة من تطرف وتشدد منذ ذلك العام، معلناً في مقابلته الأخيرة أنه سينظف نظام التعليم في المملكة من الفكر الإخواني نهائياً.
ويبدوا أن الأمير الشاب فضل أن تكون مكافحة الفكر الإخواني هي واجهة معركته تجنباً للحديث عن الوهابية -المدرسة الدينية السعودية الرسمية- التي تعد أيضاً جزء من ذلك التشدد، فالوهابية التقليدية تحمل أفكاراً متشددة ورجعية كذلك لكنها تتميز بالولاء المطلق للسلطان ولا تسعى للحكم المباشر بعكس الفكر الإخواني الذي يدعوا للتمرد على الحاكم ومباشرة الحكم، وتنظيم القاعدة يعد حالة إسلامية هجينة من الفكر الوهابي السلفي المتشدد ومبدأ “الحاكمية” الإخواني الداعي للخروج على ولي الأمر.
***
يمكن للمتابع أن يدرك أن معركة السعودية مع الفكر المتشدد هذه المرة جادة وليست ككل المعارك السابقة، التي كانت تعتمد على الخيار الأمني عندما تتضرر المملكة من تلك المجموعات، كما أن جوانبها المتعلقة بالحقوق والحريات كانت استجابات خجولة لضغط خارجي، ولم تكن تظهر كحاجة سعودية بالأساس لكي تلحق المملكة بركب الحضارة الحديثة.
تتجسد مظاهر الجدية السعودية في عدد من المؤشرات، الأول: الوضوح في تشخيص المشكلة وتحديد متى بدأت والاعتراف بأن ما سمي بعقود “الصحوة الإسلامية” لم تكن الا عقود تطرف إسلامي ورجعية وتخلف عن ركب الحضارة الانسانية، والثاني: القرارات التنفيذية والإجراءات العملية التي بدأت مثل قرار السماح للنساء بالقيادة وانشاء هيئة الترفيه وتعيين الصحفي والكاتب داؤود الشريان المعروف بعدائه لذلك التيار المتشدد على رأس هيئة الإذاعة والتلفزيون السعودي وتقييد صلاحية الشرطة الدينية “هيئة الأمر بالمعروف” وإجراءات أخرى كثيرة لا مجال لتفصيلها في هذه العجالة، والثالث: ترافق مسيرة التحديث بمشاريع اقتصادية عملاقة تضمنتها رؤية المملكة 2030 والتي ستنقل الاقتصاد السعودي نقلة نوعية وستفتح المجال واسعاً أمام الشباب السعودي والمرأة للمشاركة في سوق العمل ليكونوا حجر الأساس والحامي والحامل والمدافع عن مسيرة التحديث تلك بمختلف جوانبها، فربط مسيرة التحديث بمصالح وتطلعات الكثير من مكونات المجتمع السعودي منحها قوة هائلة وجعل معها التيار الديني عاجزاً عن مواجهتها لأنه سيدخل في حرب مباشرة مع غالبية المواطنين وليس مع سلطة الحكم فقط، والرابع: الحزم مع رموز التيار الديني وعدم اتاحة الفرصة لأي تمرد أو خطاب معارض لتلك الإجراءات للدرجة التي لم ينبس فيها أحد رموز الغلو والتطرف حتى بتغريدة واحدة، وهذا يؤكد أن الرسالة التي وصلتهم من السلطة السيادية للبلد مفادها: الى هنا ويكفي، شوهتم سمعة المملكة وكدتم أن تدمروا بلدنا ودولتنا وتعزلوا شعبنا عن العالم.
وإذا ما استمرت تلك الثورة التي يقودها الأمير محمد بن سلمان في المملكة يمكننا القول أنه سيجر منطقة الشرق الأوسط بشكل عام والعالم العربي بشكل خاص الى معركة الحداثة بعد أن جرها الخميني الى معركة التخلف والرجعية والكهنوت الديني لعقود طويلة، كانت السعودية فيها تتنافس مع أيران على العودة للوراء وتبني ما سمي وقتها “الصحوة الإسلامية” وجرت في حينه المملكة بمكانتها الدينية ووزنها الاقتصادي والسياسي الهائل بقية الأقطار العربية وبالأخص منها اليمن بحكم الجوار الجغرافي لذلك السباق المتخلف، وبعودة المملكة للإسلام المعتدل ستعود معها المنطقة والعالم العربي برمته الى ذلك الإسلام الذي يتعايش مع الآخر ويقبل بالتنوع فمن يحكم مكة والمدينة هو الأقدر على نشر الإسلام وشرحه وتقديمه بالطريقة التي يؤمن بها.