مقالات

اليمني ابن خلدون في المزاد

لعل ما يلفت الانتباه هو أن الادعاء بأن ابن خلدون ليس عربيا، يرتبط باعتماد موقفه من العرب في مزاد الإساءة إليهم وتبجيل أقوام أخرى، رغم أن ما أورده في مؤلفاته هو قراءة اجتماعية علمية صارمة.

عندما تنهار الدول “يضيع صوت الحكماء في ضجيج الخطباء”

لا تستغرب إذا صادفتك مواقع على الإنترنت تزعم بلغة الواثقين أن ابن خلدون شخصية أمازيغية، رغم أن الرجل كما هو ظاهر من اسمه الكامل وسيرته الذاتية التي دونها بنفسه، هو عبدالرحمن بن محمد بن خَلدون أبو زيد ولي الدين الحضرمي الإشبيلي، حيث تنحدر جذوره من حضرموت شرقي اليمن، وهي المنطقة التي كان لأبنائها حضور بارز في الأندلس سواء عند فتحها أو بعده.

ولعل ما يلفت الانتباه هو أن الادعاء بأن ابن خلدون ليس عربيا، يرتبط باعتماد موقفه من العرب في مزاد الإساءة إليهم وتبجيل أقوام أخرى، رغم أن ما أورده في مؤلفاته هو قراءة اجتماعية علمية صارمة، أسست لعلم الاجتماع، عبر الغوص في التفاعلات بين الجماعات والأفراد والمؤسسات والمؤثرات الداخلية والخارجية وفي ظل أوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية محددة، في فهم طبيعة المجتمعات وعلاقاتها بالعمران البشري.

وقد وصل الأمر خلال السنوات الماضية إلى حد تأليف مقولات ونسبتها إليه وترديدها على نطاق واسع لتصبح بديهيات بين الناس، من خلال الاستفادة من حالة الكسل الفكري التي تمنع المتلقي من القراءة والعودة إلى المراجع الأصلية لمعرفة حقيقة تلك المقولات.

كأن ينسب إليه أنه قال؛ إنه وعندما تنهار الدول “يضيع صوت الحكماء في ضجيج الخطباء.. والمزايدات على الانتماء.. ومفهوم القومية والوطنية والعقيدة وأصول الدين.. ويتحوّل الوطن إلى محطة سفر”، خصوصا وأن مفاهيم كالوطنية والقومية لم تكن سائدة في عصر ابن خلدون، ولم تتبلور إلا في القرنين 18 و19، وإنما هو تحدث عن العصبية باعتبارها نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا، ذلك أنها تتولد من النسب والقرابة وتتوقف درجة قوتها أو ضعفها على درجة قرب النسب أو بعده. ثم يتجاوز نطاق القرابة الضيقة المتمثلة في العائلة، ويرى أن درجة النسب قد تكون في الولاء للقبيلة وهي العصبية القبلية التي قد تتحول عبر عنصر مساعد وهو الدعوة الدينية إلى سلطة سياسية بفكرة العصبية.

ولا أدري من أين جيء بمقولة “إذا دخلت أفريقية فوافق أو نافق أو غادر البلاد” التي تنسب لابن خلدون على نطاق واسع، وتروّج على ألسنة كثيرة، ويتم اعتمادها في محاولة فهم أحوال تونس وأهلها، وأحيانا يتم تعميمها من قبل البعض لأهداف سياسية على جميع الدول العربية، رغم أن تاريخ ابن خلدون كساع إلى بلاطات الحكم، ودبلوماسي متجول وفق خصوصيات عصره بتطلع دائم إلى المناصب والوظائف السامية في إمارات العرب والبربر والمماليك، وصولا إلى تيمورلنك في دمشق، يجعل منه نموذجا للانتهازية والنفاق، غير أنهما انتهازية ونفاق من يشعر بعلو كعبه وقوة موهبته واتساع علمه ومعرفته.

*كاتب تونسي

زر الذهاب إلى الأعلى